منذ أسبوعين تقريبًا، كنت أتناول العشاء مع زوجتي وابنتي ذات الــ 22 ربيعًا، وهى التي لا شأن لها ولا اهتمام حقيقى بالوضع السياسي أو الاقتصادي. ولكن عندما تطرق حديثنا إلى موجة الغلاء التي صارت تضرب الأسواق والبيوت المصرية كافة يومًا تلو الآخر؛ فوجئت بابنتى تسألني عمَّا سيصل إليه الأمر، و"البلد رايحة على فين؟"، وهو السؤال التقليدي الذي يُطرح في الشارع المصري آلاف المرات كل دقيقة، مُعبرًا عن حالة القلق والارتباك الشديد، وحالة التأرجح بين التفاؤل والإحباط التي يعيشها شعبنا البسيط الكريم منذ ما يزيد على العامين.
رأيت على وجهها في تلك اللحظة الكثير من الأمل في أن تجد لديّ – وأنا الخبير بالشأن الاقتصادي الذي لا يكف عن الحديث عنه ليل نهار – إجابة شافية، تعطيها بعض الطمأنينة في النظر إلى المستقبل، قريبه أو بعيده.
إلا أنّي لم أتمكن من إعطاءها سوى ردود عامة عائمة، لابد وأنها خيبت آمالها إلى درجة كبيرة، لكوني في الحقيقة لا أملك إجابات فعلية. فما يحدث في مصر حاليًا خارج المقرر تمامًا، ولا علاقة له شكلًا أو موضوعًا بما يُدرَّس في كليات الاقتصاد والاقتصاد السياسى بأنواعها، ولا يوجد ذكر له في المراجع المتخصصة، ولا يعني هذا تقييمصا سلبيًا أو إيجابيًا للوضع الاقتصادي القائم، فقط هو إقرار بكونه خارج ما تتعامل معه مراجع الاقتصاد في العالم أجمع.
فئران تجارب
لست معترضًا بالطبع من حيث المبدأ على "التفكير من خارج الصندوق" – فهذا هو في الواقع ما نطالب به منذ عقود – ولكن "التفكير خارج الصندوق" لا يعني أن يتحول شعب بالكامل إلى مجموعة من فئران التجارب، تُجرب فيهم باسم الإصلاح أفكار لا أساس عملي لها ولا مرجعية أكاديمية، ولم تسبقها دراسات جدوى أو مخاطر، ولم يرها التاريخ قبلاً، مثل أن تنتقي وقت ينكمش فيه الاقتصاد بدرجة كبيرة، وتتراجع فيه القوة الشرائية بنسبة 50% على الأقل لاستحداث ضريبة كضريبة القيمة المُضافة، التي تختلف جذريًا في آلياتها وما هو مرتبط بها، عن أعباء عن ضريبة المبيعات التي كان يُعمَل بها سابقًا. أي صندوق هذا الذي نفكر خارجه إذن؟!
أؤكد مرة أخرى أني لست بصدد سب ضريبة القيمة المُضافة أو مدحها، هي أو غيرها؛ ولكن فقط أقول أن ما يُتخذ حاليًا من إجراءات اقتصادية مختلفة بشكل عام، يأتي في سياق لا يحتمل مثل تلك المجازفات غير المحسوبة، ووفقًا لآليات ملتبسة بشدة، حتى لو فرضنا حسن النوايا، وأن المُبتغى هو إصلاح جذري يُعالج الاقتصاد المصري من أمراضه المزمنة.
كما أنك لا تجد لدى أحد أي مبرر منطقي لإعادة هيكلة الدعم ككل – ليس فقط تقليص دعم الطاقة – سوى الكلام المُكرر عن الحاجة إلى خفض عجز الموازنة، وهي في الحقيقة إجابة غاية في السذاجة، لمّا كان أي طالب علوم اقتصاد في الفرقة الثانية يعلم جيدًا أن خفض الدعم دون زيادة في الأجور يؤدي غالبًا لخفض الحصيلة الضريبية للدولة، ما يعني عجزًا في متحصلات الخزانة العامة تزيد عما وفره خفض الدعم. ولنذكر هنا بأن هيكلة الدعم هي أداة لإزالة تشوهات سعرية موجودة في الاقتصاد الوطني في أوقات الانتعاش الاقتصادي والارتفاع المطرد في الأجور، وليست وسيلة للتوفير وسد عجز الموازنة في أوقات الأزمات الاقتصادية.
ببساطة: من يضطر إلى رفع مخصصات الخدمات والمواد الأساسية مثل الكهرباء والمياه والغاز والوقود في ميزانيته الشخصية، دون أن تتوفر ليديه زيادة في الدخل؛ سيضطر إلى تخفيض إنفاقه على بنود محورية أخرى كالملابس والمأكولات والترفيه والتعليم، مما يسبب ركودًا في تلك الأسواق. وبالتالي ستنخفض الحصيلة الضريبية بصرف النظر عن الهيكل الضريبي المُطبق.
ليست لدي أدنى فكرة أيضًا عمَّن هو عبقري عصره وزمانه، صاحب فكرة إيجاد آليات جديدة لتمويل ودعم وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة – سواء من خلال ضوابط التمويل التي وضعها البنك المركزي أو عبر قروض الصندوق الاجتماعى للتنمية – دون فك مركزية إدارة المنظومة أولًا، ودون تفعيل لدور الأجهزة المعنية بمنع الاحتكارات وحماية المستهلك، وإعطائها ضبطية قضائية تكفل لها ضرب أية محاولات من كبار المنتجين والتجار لتدمير هذه المشروعات باعتبارها منافسة لهم، وكذلك في ظل غياب تشريعات تُمكن الدولة من تشريح أو حل ثم إعادة تركيب الشركات التي يتضح من خلال توسعاتها واستراتيجية عملها أن لها طموحات احتكارية تضر بصالح المستهلك، كما حدث في أوائل الألفية مع شركة "مايكروسوفت" في الولايات المتحدة، الدولة حامية التوجهات الاقتصادية الرأسمالية والليبرالية.
بدون كل تلك الإجراءات ستكون جميع مجهودات دعم قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ضربًا من العبث.
فوضى غير خلاقة
لا يختلف الأمر كثيرًا في القوانين التي تسنها الحكومة وتحظى بموافقة مجلس النواب، انطلاقًا من منهج المجلس في الطاعة العمياء. يفترض أن تلك القوانين "جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي"، من حيث ما تقدمه للمستثمرين من تسهيلات وإعفاءات من ناحية، وقدرتها على مكافحة الفساد من خلال ضبط وإصلاح الجهاز الإداري للدولة من ناحية أخرى. وهي قوانين الاستثمار الموحد، والخدمة المدنية والحد الأقصى للضريبة على الدخل، وإجراءات كتعليق العمل بقانون فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية للتعاملات بالبورصة.
عودة الخصخصة
نحن على ما يبدو أمام حكومة تظن أنها كلما توسعت في إصدار قوانين للاستثمار بلا ضابط أو رابط بمبدأ "هات استثماراتك وتعالى"، ستجذب مستثمرين جدد. ربما يحدث ذلك فعلاً، ولكنها في الأغلب لن تكون استثمارات جادة. فهذا السياق جاذب للمغامرين ومستثمري "اضرب واجرى"، ممن يبحثون عن مكسب سريع، لا يفيد بالضرورة الأهداف الوطنية المتطلعة لتحقيق الاقتصاد الراسخ والتنمية مستدامة.
فالمستثمر الجاد يبحث عن بيئة أعمال مستقرة، وبالتالي يحتاج لقوانين منضبطة تحمى استثماراته، لا تسهيلات ضريبية ولا أراضى مجانية. ومثل هذا المستثمر لن يأتي إلى دولة تضغط على دخول موظفى جهازها الإدارى بقوانين مجحفة مثل قانون الخدمة المدنية، الذي يدفع الموظف إلى الفساد دفعًا كى يتمكن من الحصول حتى على حد الكفاف.
أما الإسراع في وتيرة الخصخصة فيفتقد هو أيضًا إلى الحد الأدنى من الرشد الاقتصادي في ظل الظروف الحالية. بعيدًا عن كوني أنا شخصيًا ضد الخصخصة من حيث المبدأ أصلاً، لأسباب عدة تتعلق في أساسها بضرورة الحفاظ على قدرة الدولة على ضبط الإيقاع الاقتصادي. لكن تبقى حقائق وحتميات اقتصادية تذهب إلى أن بيع القطاع العام سيؤدي إلى نوع من انفلات الأسعار بدرجة ما، وسيزيد حتمًا من نسب البطالة، وبالتالي ستنتج عنه اضطرابات اجتماعية مختلفة، كالاعتصامات والإضرابات التي لا يجب التعويل على القبضة الأمنية في مواجهتها لكونها منطقلة من اختناق اقتصادي حقيقي، وستؤثر هذه الاحتجاجات على الطاقات الإنتاجية الموجودة.
ومن ثم، لم تكن خطوة الخصخصة تلك جائزة إلا في ظل نسب بطالة منخفضة، كما فعلت ألمانيا في أواسط تسعينيات القرن الماضي، عندما هبطت نسب البطالة إلى ما يُقرب من خمسة بالمئة، فأقدمت حينها على بيع نشاط توليد ونقل الكهرباء، وخصخصت هيئة البريد في إطار سوق ذي مستويات سعرية منضبطة. وتحولت الهيئة فيما بعد إلى إحدى أكبر شركات الإتصالات في أوروبا والعالم.
أما نحن في مصر، فقد وصلنا اليوم إلى درجة وجود ثلاثة أو أربعة أسعار مختلفة لذات المُنتج من نفس العلامة التجارية، فنجده بخمسة جنيهات في أحد المحلات، وبسبعة أو ثلاثة في محل ثان يبعد عنه أمتار قليلة. ونسب البطالة تعدت حاجز العشرة بالمائة رسميًا وما خُفي كان أعظم.
أي استفزاز
كما أتت مسألة رفع الجمارك على بعض المنتجات المستوردة التي أطلق عليها لفظة "استفزازية" (أي الترفيهية أو غير الأساسية التي لا يستهلكها سوى القادرين ماديًا من لن يجدوا صعوبة في دفع الزيادة المترتبة على رفع الجمارك) لتزيد الطين بلة.
ورغم أن هذا الإجراء في حد ذاته لا يعبيه شيء على الإطلاق من وجهة نظري، بل أنا في الحقيقة أؤيده قلبًا وقالبًا، خاصة في ظل معاناة الدولة من أزمة حادة في توفير النقد الأجنبي وفقدها القدرة على التحكم في سعره بالسوق الموازية، ولم يعد لديها ما من موارد العملة الصعبة ما يكفى للدفاع عن قيمة العملة الوطنية.
لكن؛ للأسف الشديد جاء هذا القرار أيضًا بدون أى طرح مُصاحب له، أو تصور لتأثير ذلك على المنتجات والخدمات الوسيطة والمُكملة، مثل النقل ومواد التعبئة الخاصة بتجارة الجملة (الكراتين مثلًا) وما شابه ذلك، بالإضافة إلى العمالة المرتبطة بهذه النوعية من المنتجات.
فافتراض أن الطبقة الثرية هي الوحيدة المُستهلكة للسلع "الاستفزازية" مبدئيًا يجانبه الصواب، حيث يأتى الجزء الأكبر من عملاء تلك السلع من الطبقة الوسطى العليا، وهم ليسوا من فئة المليونيرات والمليارديرات. وبالتالي لن يتمكنوا من تحمُّل الأعباء الزائدة التي ستنتج عن قرار رفع الجمارك، ما سيؤدي حتمًا إلى انهيار مبيعاتها، وغلق مئات من الشركات والمنشأت – ومنها المنشأت السياحية – التي يتصل عملها بتلك السلع بطريقة أو بأخرى، لغياب الخطة الاقتصادية التي تستوعب هذه العمالة في أنشطة أخرى.
وفى النهاية، فوجئنا جميعًا بالطامة الكبرى حينما قررت الحكومة التحرير الكامل لسوق الصرف، بدلاً من التعويم المُدار الذي توقعه وانتظره كافة الخبراء والمتخصصين المصريين والأجانب الملمين بأوضاع الاقتصاد المصري المأزوم.
العلاج بالصدمات
كنا ننتظر أن تعلن الحكومة عن تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار إلى ما يتراوح بين 10.50 إلى 11.00 جنيه، مع الإبقاء على تسعيره جبرًا، وكبح جماح السوق السوداء عبر زيادة قيمة العطاءات الدولارية الدورية التي يطرحها البنك المركزي للدفاع عن الجنيه، خاصة بعدما وصل احتياطى النقد الأجنبى إلى حوالى 23 مليار دولار تقريبًا، وهو رصيد كان كافيًا للدفاع عن الجنيه حتى شهر مارس على أقل تقدير، مع زيادة العطاءات الدورية بنسبة 50% تقريبًا، وتوجيهها لصالح استيراد المواد الخام الخاصة بالصناعات الاستراتيجية والأساسية، وعلى رأسها القمح والأعلاف والدواء، الذي يشهد حاليًا أزمة طاحنة تهدد حياة الآلاف من المواطنين البسطاء.
لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وخرجت علينا الحكومة بدلًا من ذلك بالمزيد من التصريحات العنترية التي تتحدث عن تطبيق نظام "العلاج بالصدمات" للاقتصاد المصري، وتدعي أن اليوم هو يوم دخول مصر إلى مصاف الدول الحديثة. وهى تصريحات لا تصلح سوى للاستهلاك الإعلامى على أفضل تقدير، لأن الحقيقة هي أن ذلك الإجراء كان لابد – وكما حدث بالفعل- أن يؤدي إلى انفلات نسب التضخم، وأن تعقبه موجات غلاء جنونية خارجة عن السيطرة تمامًا، وهو ما تم فعليًا.
ولا أريد في الواقع الخوض في مسألة تحرير سعر الصرف أكثر من ذلك، لأنها قد قُتلت بحثًا على مدار الشهرين الماضيين من جميع الأوجه والجوانب، ولم يتبقى فيها ما يُمكن أن يُذكر. ولكن الثابت إجمالًا: هو أن ما تفعله الحكومة المصرية حاليًا لا علاقة له من قريب أو بعيد بتطبيق برنامج إصلاحي، ولا حتى بالمقاييس الرأسمالية أو النيوليبرالية. بل لا يعدو كونه مجموعة من التحركات اليائسة البائسة، ليس للإصلاح الكلي أو الجزئي، ولا حتى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بل مجرد: "إصلاح ما يُمكن إنقاذه". ويتم ذلك بعشوائية شديدة لمحاولة تنفيذ شروط مؤسسات التمويل الدولية، وبغرض يتلخص في مجرد الحصول على المزيد من القروض التي قد تجنبنا الانهيار الكامل لفترة معينة، ولكنه قادم لا مُحالة.
أعتذر لكِ مرة أخرى يا ابنتى العزيزة، لأن علمي ورؤيتي غير كافيين للإجابة عن سؤالك، وكل ما أعرفه هو أن هناك رب يحاسب ومن بعده التاريخ.