مع الإقبال المتزايد من المصريين على السفر للخارج بدافع البحث عن عمل أو فرص للتدريب وتحسين المعيشة، تتزايد الطوابير أمام السفارات، ويتزايد معها التعنت، قرين التخوف، لدى السفارات الأجنبية. في هذا التقرير ترصد "المنصة" طوابير اليأس وضياع الفرص التي تحكم سفر المصريين للخارج.
كانت عقارب الساعة تدنو من التاسعة والنصف صباحًا، الموعد الذي ينتظره 6 رجال أمام بوابة القسم القنصلي بالسفارة التونسية، حين تُفتَح الأبواب. منهم من جاء ليتقدم بطلب الحصول على التأشيرة، ومنهم من ينتظر معرفة مصير طلبه.
مر ذاك الصباح من شهر أكتوبر/ تشرين الثاني، بصورة مختلفة على الصحفية كارولين كامل، التي سبقت هؤلاء الرجال في التعامل مع السفارة نفسها، قبل أن يضيع عليها فرصة السفر لحضور ورشة تدريبية في تونس، بسبب تعطل صدور التأشيرة.
كاد صحفي مصري آخر، هو أحمد عصمت، أن يتعرض لموقف كارولين، لولا ضجة على "فيسبوك"، جعلته أوفر حظًا منها ومن مصريين آخرين؛ قطعت قرارات وإجراءات سفارات عربية وأجنبية أخرى طريقهم للسفر، بل ولاقوا على أبوابها "معاملة سيئة"، وفقًا لما حكوه لـ"المنصّة"، وما رصدناه خلال ساعات قضيناها في واحدة من تلك السفارات.
التعليمات "السرّية"
خلف حاجز زجاجي، داخل غرفة ضيقة للغاية، هي القسم القنصلي للسفارة، جلس الموظف التونسي الأربعيني. ولم تمر سوى الدقائق الأولى من يوم العمل، حتى بدأ الشد والجذب بينه وين مرتادي السفارة، وكان السبب رفضه الإفصاح عن مصير تأشيراتهم قبل ساعتين.
حاول المتقدمون عبثًا إقناع التونسي، لكنه رد بحزم وهو يشير لورقة معلقة على غرفته الزجاجية، أن التعليمات واضحة، ولم يصغي إلى الاعتراضات بأن هذه التعليمات مجهولة، إذ لا يوجد موقع إلكتروني لعرض قواعد وخدمات السفارة، ليهمس أحد المتقدمين ساخرًا "ما هي دي التعليمات السرّية".
استسلم أصحاب التأشيرات لقرار الموظف، ليبدأ الثاني مشادات جديدة مع المتقدمين بأوراق التأشيرة، وذلك في الدقائق التي كان يظهر فيها أمامهم، بعد ربع ساعة أو أكثر من الغياب في غرفة داخلية.
سيدة تعيش في إحدى المدن الجديدة، قطعت المشوار إلى الزمالك -حيث مقر السفارة- مرتين، وطلب منها الموظف أن تأتي مرّة ثالثة، لنقص في أوراقها. رجال أتوا من الريف وسينتظرون للظهيرة لمعرفة مصير تأشيراتهم، ورجل أربعيني وفتاة في العشرينيات يتأففان لاضطرارهما التغيب عن العمل، لكنهم جيمعًا انتهى بهم الحال للامتثال للتعليمات.
قبل الحادية عشرة والنصف بقليل، تدخل شابة، للسؤال عن تأشيرتها وزملائها المسافرين لحضور مهرجان قرطاج، ليكون الرد من موظف تونسي آخر "مش كل نص ساعة يييجي حد يسأل على تأشيرات"، لتنسحب الشابة في هدوء، بعد قرار الموظف بإبلاغهم جميعًا بمصير تأشيراتهم في موعد واحد، اختاره هو.
لكن مصطفى محمد فؤاد، الموظف بإحدى شركات الاتصالات، والذي علم بأن تأشيرته لم تصل بعد، لم يغادر السفارة في هدوء، وحكى في انفعال لـ"المنصة" إنه تقدم بطلبها في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، متعجبًا من تأخرها لما بعد منتصف أكتوبر.
"أنا سافرت تونس قبل كده، وكنت رايح المرّة دي اتفسح، خلاص بقى هروح أسبانيا أحسن" يقول "فؤاد"، مبديًا تعاطفه مع المُضطرين للتعامل مع السفارة لدواعي قهرية "طب أنا مسافر سياحة، لكن اللي عنده ارتباطات شغل يعمل إيه؟".
مماطلة وسوء معاملة
كانت الصحفية كارولين كامل، ممن تحدث عنهم "فؤاد"، باعتبارها كانت مدعوّة لتدريب نظمته "دويتشه فيله" في تونس، أوائل أكتوبر/ تشرين أول الجاري، لكن رياح الروتين أتت بما لا تشتهيه سُفن المواعيد.
تحكي كارولين لـ"المنصة" ما عانته، منذ تبرعت أواخر أغسطس/ آب الماضي، بتولي مسؤولية الحصول على 5 تأشيرات لها ولزملائها، المشاركين في الورشة نفسها، قائلة "كنت عارفة تعقيد الإجراءات، لأني سافرت قبل كده، فقررت أقدم بدري. ساعتها الموظفة أكدت لي إن ورقنا كامل، وطلبت مني أروح لها بعد عيد الأضحى".
توجهت كارولين إلى السفارة قبل موعد رحلتها بـ10 أيام، أملاً في تسلم التأشيرات، لتفاجئ بالموظفة تخبرها أن أوراقهم ينقصها دعوة من مؤسسة تونسية مشاركة في التدريب، لبّت الصحفية الطلب، لتتلقى ثاني المفاجآت برفض منحها التأشيرات، لـ"عدم اكتمال التحريات الأمنية".
يعضد رواية كارولين، واقعة سابقة، يحكي عنها الصحفي أحمد عصمت، مدير تحرير مجلة "ألكس أجندة"، الذي كان أحد المتحدثين في مؤتمر بتونس، في سبتمبر/ أيلول الماضي، فعلى الرغم من استيفائه كل ما تطلبه السفارة، لم تصدر التأشيرة إلا قبل سفره بيوم واحد، وبعد مشاوير وشكاوى.
"المشكلة إننا مش بنحترم وقت بعض، ومفيش حاجة واضحة ولا محددة"، يقول "عصمت" الذي اضطر لبث شكواه من تأخر صدور التأشيرة على فيسبوك، مخاطبًا بها الحكومة ورئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية التونسية؛ ليفاجأ بصدورها بعد انتشار شكوته عبر الأصدقاء، بحوالي 90 دقيقة فقط.
تؤكد كارولين أن أكبر مشكلاتها كانت في "الإهمال وسوء المعاملة" و"التعنت" مع المصريين بشكل عام. ويقول "عصمت" إنه سافر إلى البلد نفسه 4 مرات تقريبًا، على مدار أعوام، وفي كل مرة كانت التأشيرة تصدر في غضون أسبوع، وكلاهما يرى أن معاناتهم، "أمر متبادل بين سفارتي البلدين"، وفقًا لما رواه لهما أصدقائهما التونسيين.
تواصلت "المنصّة" مع السفارة التونسية، للرد على شكاوى المواطنين، إلا أن مستشارها الإعلامي، رفض الإدلاء بتصريحات تليفونية، وطالب بعقد لقاء به، لكنه لم يحدد الموعد، بالمخالفة لاتفاقه مع "المنصة".
انتفاضة إلكترونية
أما عمر خليفة، العضو المنتدب بموقع "شغلني" للتوظيف، فقد رفضت السفارة المجرية منحه تأشيرة الدخول إلى أراضيها، فضلاً عن معاملته بطريقة "سيئة"؛ فقرر تدشين صفحة على فيسبوك بعنوان "ضد المعاملة السيئة من سفارات الاتحاد الأوروبي للمصريين"، والتي تخطى عدد متابعيها منذ مايو/ أذار الماضي 42 ألف شخصًا.
تواصلت "المنصّة" مع السفارة المجرية، وأكد مسؤول القسم القنصلي بها، سووس ستيفان جويولا، أن عضوية بلاده في معاهدة "شنجن"، تلزمها بالتعامل مع طالبي التأشيرات، وفقًا لقانون الاتحاد الأوروبي رقم 810/ 2009 بشأن التأشيرات.
ويحدد هذا القانون، الصادر عن مجلس الاتحاد الأوروبي وبرلمانه في 31 يوليو/ تموز 2009، القواعد الخاصة بالتقدم لطلب تأشيرات السفر للإقامة قصيرة المدى في دول الاتحاد الأوروبي، ودواعي رفض الطلب.
وقال "خليفة" إن دافعه لإطلاق هذه الصفحة هو "التعبير عن كم الإساءة التي يلقاها المصريون من السفارات الأجنبية"، أملاً في أن تتحرك وزارة الخارجية المصرية لحلّه، والقضاء على إجراءات مُعقدة، تمثلت من وجهة نظره -فيما يتعلق بالسفارة المجرية على الأقل- في "التكلفة المرتفعة للحجز عن طريق إحدى شركات المحمول، وطول الفترة الزمنية التي يُحدد فيها الموعد بما لا يقل عن ٤٥ يومًا إلى ٣ شهور، والمستندات العديدة التي تطلبها السفارات".
وسعت "المنصة" للحصول على تعليق من المستشار أحمد أبوزيد، المتحد الإعلامي باسم وزارة الخارجية، إلا أنه رفض الرد.
وترفع صفحة مناهضة "المعاملة السيئة" من السفارات للمصريين، مطالب خمسة، هي "دفع رسوم الحصول على التأشيرة بالجنيه المصري، وتنظيم مواعيد المقابلة في وقت لا يزيد عن ٣٠ يومًا، وترجمة كل ورقة مطلوبة إمضائها داخل السفارة باللغة العربية، وحسن المعاملة تجاه المصريين وكبار السن، وإعلان أسباب حقيقية لرفض منح التأشيرة".
ويقول مسؤول القسم القنصلي في السفارة المجرية، إن قرار رفض التأشيرة وأسبابه، دائمَا ما يتم توضيحهما للمتقدم، والذي يحق له الطعن على القرار لتبت فيه الخارجية المجرية في غضون 15 يومًا. كما يمكن أن يكون الطعن محل مراجعة قضائية.
لكن مشكلة "خليفة" لم تكن في الرفض فقط، بل في "التعنت" الذي بدا في كتابة أسباب رفض التأشيرة باللغة المجرية فقط، طالبه مسؤولو السفارة بالتوقيع عليها، ورفضوا ترجمتها له للإنجليزية، وهو ما وصفه بـ"الاستهزاء". فضلاً عن شكواه من أن الرسوم لم تُقبل منه إلا باليورو.
إن كان عمرو خليفة شخص له تجارب سفر سابقة، " أنا واخد أكتر من ١٠ تأشيرات شينجن قبل كده، وعندي تأشيرة لأمريكا 5 سنين"، ويدرك جيدًا كيفية استيفاء الأوراق المطلوبة للسفر.
إلا أن استيفاء الأوراق ليس ضمانًا للحصول على التأشيرة، يقول "جويولا" إن الوثائق ليست المطلب الوحيد للحصول على الـ"شنجن"، فإصدارها يستلزم عمليات فحص وتدقيق معقدة.
ويختتم "جويولا" بالإشارة إلى أن معدل رفض السفارة المجرية للتأشيرات بلغ عام 2015 نسبة 9.7%، معلقًا بأن هذا المعدل أقل من المعدل الخاص بدول الاتحاد الأوروبي، والمقدر بنسبة 12% من طلبات التأشيرات المُقدمة. وأنه حتى 30 سبتمبر 2016، لم يرفض من طلبات التقديم إلا نسبة 8.1% فقط.
بدون إبداء أسباب
كانت لرفض منح التأشيرة لكارولين وعمرو أسباب، لكن الطالب بكلية الهندسة عبد الله ناصر، لم يعرف سببًا لرفض السفارة الأمريكية منحه التأشيرة.
عندما علم "ناصر" بقبوله للمشاركة في مسابقة " hackathon " للتكنولوجيا، المقامة في الولايات المتحدة يومي 17 و18 سبتمبر/ أيلول الماضي، سارع لإنهاء إجراءات سفره، وطلب من جامعته "بنها" المساعدة في تسهيل إجراءات التأشيرة، ليكون ردها "هات الفيزا وإحنا ندفعلك فلوس الطيران".
يقول "ناصر" لـ"المنصّة" إنه تقدم للحصول على تأشيرة زائر، في 17 أغسطس/ آب، قبل موعد المسابقة بشهر كامل، ليفاجأ بأن موعد مقابلته في السفارة 25 سبتمبر/ أيلول، ما يعني ضياع فرصته للمشاركة في المسابقة؛ وتبدأ محاولاته المستميتة في الحصول على موعد مبكر، دونما طائل.
وعلى الرغم من استسلام "ناصر" للموعد المتأخر؛ إلا أن مقابلته انتهت برفض منحه التأشيرة "الفوري والنهائي"، وما أثار دهشته: كان غياب الأسباب "أخدت الورقة اللي المفروض فيها أسباب الرفض، لكن ده مكانش موجود بالفعل".
تتقطع سُبل السفر، في أحيان أخرى، لأسباب أبعد وأكبر من السفارات وإجراءاتها، كما وقع لحسام محمود- اسم مستعار بناءً على طلب المصدر- الذي خسر فرصة عمل في شركة كبرى بالإمارات، أغسطس/ آب الماضي، بسبب رفض منحه تأشيرة عمل.
يقول "محمود"، لـ"المنصة"، إن رفض طلبه المشفوع بكافة الأوراق المطلوبة لم يكن من السفارة، بل من إدارة الإقامة وشؤون الأجانب في دبي "وبدون إبداء أسباب". وعلم محمود من أصدقائه هناك أن ما حدث معروف باسم "الرفض الأمني"، ويتم "بناءً على استعلام أمني في مصر"، وهو ما عقب عليه بقوله "مع إن معنديش أي سابقة جنائية".
ويقول الشاب من واقع تجربته وآخرين "الأمر إزداد سوءًا بعد ثورة 25 يناير، ونسبة إصدار تصاريح وفيزا عمل للمصريين في أبوظبي تقريبًا صفر، بينما لاتزال دبي مفتوحة نسبيًا لهم"، وعلى الرغم من هذا لايزال يراوده أمل، دفعه لاتخاذ قرار بإعادة التقدم خلال الأشهر المُقبلة.