تستعد فرنسا لتمرير قانون جديد يلزم تطبيقات المراسلة المشفرة مثل واتساب وسجنال وخدمات البريد الإلكتروني المشفرة مثل بروتون ميل، بفك تشفير رسائل المستخدمين وتسليمها للسلطات عند الطلب، بالإضافة إلى اعتراض الاتصالات الهاتفية والرسائل النصية. وهذا يعني أن حتى المحادثات التي كان يُعتقد أنها خاصة وآمنة قد تصبح متاحة لأجهزة الاستخبارات.
يأتي ذلك في إطار تعديل جديد على مشروع قانون مكافحة تهريب المخدرات، الذي يناقشه البرلمان الفرنسي، والذي ينص على إلزام شركات التكنولوجيا بتقديم الرسائل المشفرة للمشتبه بهم خلال 72 ساعة من تلقي طلب رسمي من جهات إنفاذ القانون.
ويمنح مشروع القانون الجديد السلطات الفرنسية صلاحيات مراقبة رقمية غير مسبوقة، حيث يتيح لها تتبع بيانات المستخدمين في الوقت الفعلي، مما يعني أن أي نشاط رقمي، سواء كان تصفح الإنترنت والمحادثات عبر التطبيقات المختلفة أو حتى التفاعلات على السوشيال ميديا، يمكن أن يكون تحت المراقبة الفورية للأجهزة الأمنية.
أكثر ما يثير الجدل هو أن القانون لا يتطلب الحصول على إذن قضائي مسبق لتنفيذ عمليات المراقبة. بعبارة أخرى، يمكن للسلطات التجسس والتنصت على الأفراد دون أي رقابة قانونية مستقلة.
أيضًا ستستخدم الحكومة أنظمة تحليل متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما يسمح بمراقبة ملايين المستخدمين في وقت واحد. تعمل هذه الأنظمة عبر خوارزميات ذكية مصممة لاكتشاف "سلوك مشبوه". أما المشتبه بهم الذين يتم تصنيفهم كـ"خطر محتمل"، فسيواجهون مراقبة طويلة الأمد دون أي تحديد زمني.
وطبقًا للتعديل الجديد، يواجه الأفراد الذين يرفضون الامتثال للقانون غرامات تصل إلى 1.5 مليون يورو، بينما قد تتعرض الشركات المخالفة لغرامات ضخمة تصل إلى 2% من إجمالي إيراداتها السنوية عالميًا، وهو ما يضع ضغوطًا هائلة على شركات التكنولوجيا العاملة في فرنسا.
لم يتوقف الجدل عند حدود فك التشفير، إذ يمنح مشروع القانون الجديد السلطات الفرنسية صلاحيات واسعة لاستخدام برامج التجسس، لاختراق هواتف وأجهزة الكمبيوتر وتنشيط الميكروفونات والكاميرات عن بُعد.
كما يسمح باستخدام الخوارزميات الذكية لمراقبة نشاط الإنترنت، وجمع بيانات المستخدمين دون الحاجة إلى موافقة قضائية، وهو ما أثار مخاوف كبيرة من انتهاك الحق في الخصوصية والتجسس الجماعي على المواطنين.
وفي سياق متصل، وصفت منظمة la quadrature مشروع القانون بأنه تهديد غير مسبوق للحريات الرقمية، مشيرة إلى أن وكالة الأمن السيبراني الفرنسية/ANSSI وخبراء التشفير حذروا مرارًا من أن هذه التدابير غير قابلة للتطبيق تقنيًا وتتعارض مع المبادئ الأساسية للأمن الرقمي.
وأكدت المنظمة في بيان لها أن التشفير من طرف إلى طرف مصمم بحيث لا تستطيع حتى الشركات نفسها الوصول إلى الرسائل، ولا يوجد أي بلد في العالم يعتمد مثل هذا الإجراء.
ومن المتوقع أن يخضع مشروع القانون لمناقشات مكثفة في البرلمان الفرنسي خلال الأسابيع المقبلة. ودعت منظمات حقوق الإنسان ونقابات المحامين والقضاة البرلمان إلى رفض التعديلات المقترحة، محذرة من أنها تؤسس لنظام مراقبة واسع النطاق دون ضمانات قانونية كافية.
فرنسا وبريطانيا.. نهج واحد
في الوقت الذي تسعى فيه فرنسا إلى تمرير ذلك القانون، كانت بريطانيا سبقتها في تصعيد الضغط على شركات التكنولوجيا، لإجبارها على منح السلطات إمكانية الوصول إلى بيانات المستخدمين المشفرة.
ففي بريطانيا، تعرضت شركة أبل لضغوط حكومية مكثفة لفتح باب خلفي يُمكّن السلطات البريطانية من تجاوز ميزة الحماية المتقدمة للبيانات/ADP لمستخدمي iCloud، والتي تمنع حتى الشركة نفسها من الوصول إلى بيانات المستخدمين.
واستندت السلطات البريطانية في طلبها إلى قانون سلطات التحقيق لعام 2016، المعروف باسم "ميثاق المتطفلين"، الذي يمنح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة للتجسس الرقمي، ويُلزم الشركات التقنية بتوفير أدوات تفكيك التشفير عند الطلب، دون السماح لها بإبلاغ المستخدمين بذلك.
المقاربة بين فرنسا وبريطانيا تعكس اتجاهًا متزايدًا نحو فرض رقابة حكومية أكبر على الفضاء الرقمي، حيث تسعى الحكومات إلى كسر أنظمة التشفير القوية التي تحمي خصوصية المستخدمين، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
ففي حين أن المملكة المتحدة مارست ضغطًا مباشرًا على أبل لإضعاف الحماية على بيانات المستخدمين السحابية، تتخذ فرنسا نهجًا أشمل عبر فرض مراقبة فورية على جميع الأنشطة الرقمية، دون الحاجة إلى إذن قضائي، مما يتيح للأجهزة الأمنية التجسس على المراسلات والاتصالات والتفاعلات الرقمية بحرية تامة.