تصميم المنصة، 2025
الرئيس عبد الفتاح السيسي

السيسي وحيدًا

منشور الأربعاء 21 مايو 2025

"الريس النهارده قال كلام في قمة العراق لو قاله في مصر يتقبض عليه".

كانت هذه العبارة، بالعامية المصرية، الأكثر إضحاكًا ودقةً من بين كل التعليقات على ما قاله الرئيس في القمة العربية الأخيرة، تحديدًا إشارته إلى أن السلام لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية، وإن طبَّعت كل الدول العربية مع إسرائيل.

لا يمكن فصل هذا التعليق الساخر عن تعبيرات وجه الرئيس خلال القمة وهي تميل للعبوس والجدية البالغة، أو عن مشهد آخر سبقها بساعات؛ زيارة ترامب للخليج، دون المرور بمصر، ودون أن يُدعَى الرئيس المصري للقائه. وربط هذا التعليق بالمشهدين يعبِّر عن حقيقة بائسة. وهي أن السيسي كان وحيدًا، لا يجد من يحادثه أو يستمع إليه، مدركًا أن مسار المنطقة يُرسم بعيدًا عنه، بشكل يتجاهل أكبر دولة عربية، تلك التي يرأسها.

وجد الرئيس نفسه وحيدًا في بغداد، في غياب رؤساء وملوك البلدان العربية صاحبة الثقل. فأمير قطر غادر القمة في بدايتها. وحتى العراق الذي استضافها من الصعب اعتباره دولة ذات ثقل، بعد أن دُمِّر وفُكِّكت الكثير من مفاصله خلال العقود الثلاثة الماضية، بموافقة وتواطؤ النظام العربي، ومن ضمنه مصر.

جاء خطاب الرئيس معبِّرًا عن هذه الحالة من الوحدة الحزينة، وقلة الحيلة. مؤكدًا من ناحية على حقيقة يعرفها الجميع؛ أن اللحظة التي تعيشها المنطقة مصيرية. ومستنكرًا من ناحية أخرى، ضمنيًا، اتفاقيات أبراهام التي انتعشت من جديد بالرغم من الإبادة، وأن التطبيع لن يؤدي للسلام. دون أن ينسى، بلا أي شك، أن سلطته تَسجن منذ شهور طويلة بعض من يتفقون معه في الرأي، بسبب التظاهر لإعلان هذا الرأي ذاته.

تمثَّل البؤس أخيرًا في أن السيسي لم يجد أمامه سوى مخرج وحيد لهذه المرحلة الحرجة، أمنية مستحيلة التحقق، أن يناشد رئيس الولايات المتحدة المهووس، بما يناقض توجهاته المعلنة نفسها. ففيما يريد ترامب تهجير الفلسطينيين، وتحويل غزة لريفييرا أمريكية، يدعوه السيسي للتشبه بكارتر، في خلق لحظة شبيهة بتلك التي حدثت أواخر السبعينيات، بأن يرعى اتفاقًا تاريخيًا ينهي الصراع في الشرق الأوسط بناء على حل الدولتين الذي أصبح مستحيلًا.

مصيدة صُنعت في مصر

الرئيس السوري أحمد الشرع يصافح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وبينهما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. الرياض، 14 مايو 2025

قبل أيام، في ذكرى نكبة 1948، تصدَّر الصفحة الخامسة لجريدة الأهرام التابعة للسلطة والمُعبِّرة عن توجهاتها عنوان بالصيغة التالية "77 عامًا على جرح لم يزل ينزف. لن نرحل.. هتاف واحد في ذكرى النكبة. الفلسطينيون يواصلون الصمود.. بمواجهة احتلال لا يتوقف عن الإبادة".

عنوان معبر عن مأزق واضح؛ يحاول أن يكون صارخًا، لكنه يُترك للصفحة الخامسة، ليراه أقل عدد ممكن. يحاول التعبير عن حجم الكارثة الحالية، لكنه يُمِّيع في الوقت نفسه المسؤولية عنها، ويُجهِّل المسؤولين عن تعميقها. فالجرح الذي لم يزل ينزف تجاوز بكثير الجرح الذي حدث قبل 77 عامًا، بعد أن أضيفت إليه عشرات الجروح المتتالية، لتُوسِّع وتعمِّق الجرح القديم، وبعض أسباب هذا التوسع والغرغرينا التي ضربته، يُسأل عنها النظام المصري.

بالإمكان اعتبار المشهد الحزين لوحدة الرئيس في بغداد تعبيرًا عن نفس المأزق الذي عبَّرت عنه الأهرام. وبينهما يحدث ما يكمله؛ زيارة ترامب للمنطقة، ومروره على قطر والإمارات والسعودية، من دون أن يدعو أيٌّ من هؤلاء الملوك والأمراء السيسي لمجالسته ومجالسة الرئيس الأمريكي. من دون أن يمنحه أحد فرصة التعبير عن حقيقة أن أي ترتيبات للمنطقة، إن أريد لها النجاح، لا بد وأن تمر عبر دولته.

لم يدعوه، لم يحادثوه، بل دعوا الإرهابي السابق، أحمد الشرع. دعوا من قضى الرئيس المصري مع كل مؤسسات دولته 12 عامًا يحاربون أمثاله. دعوه ليرد الجميل الذي أوصله للسلطة، وليفتتح رحلة دخول سلطته في مسار التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية، إن أراد الاستمرار في السلطة. دون أن يجرؤ أحد على رفض تصريح ترامب، في حضورهم، بأن على أمريكا أن تسيطر على غزة.

إن كانت سلطة السيسي تتفق مع الخليج في ضرورة القضاء على منظمات المقاومة في المنطقة، وقصقصة ريش الفلسطينيين، فهي تدرك أيضًا أن قصقصة كل الريش الفلسطيني ليس مناسبًا لها، بل يهدِّد أمنها القومي. مثلما تدرك الدولة المصرية الفرق بين صيغتها من التطبيع خلال العقود الخمسة الأخيرة، المحكومة بدرجات ومجالات محددة لتجنب إغضاب الشارع المصري وإهانته، والصيغة الإماراتية الأقرب للهفة والحب والتماهي.

على أن الفرق الجوهري بين سلطة السيسي وهذه السلطات الخليجية تكَرَّس في هذه اللحظة المشهدية بامتياز؛ أنَّ سلطة السيسي تعتمد على تراث الدولة المصرية ورصيدها التاريخي لفهم المنطقة والتعامل معها. حتى وإن أخطأت أو غابت، فإنها تدرك الأبعاد الإقليمية العميقة للقضية الفلسطينية. بينما تفتقد دول الخليج، بحكم طبيعتها، لهذا التراث الدولتي للارتكان عليه. فعلى سبيل المثال، الإمارات أقرب لصيغة الشركة متعددة الجنسيات من صيغة الدولة. أما سوريا، الدولة، فرئيسها وميليشياته لم تفعلا حتى اللحظة سوى تفكيك تراث الدولة السورية. دون أدنى وعي بالفرق بين هذه الدولة وسلطة الأسد.

لا تنحصر الفروق بين كتلة الخليج بصحبة الشرع من ناحية، والدولة المصرية من ناحية أخرى، عند هذه النقطة. بل تمتد لوعي الدولة المصرية جيدًا بأن تهجير الفلسطينيين، أيًا كان مكان التهجير وصيغته، واستمرار الإبادة لشهور إضافية، قادران على تفجير الشرق الأوسط. فمصر تعي أن المنطقة ملغمة بقوى اجتماعية متناقضة المصالح، لا يمكن للكثير منها التعايش مع واقع التهجير المتخيل، والتصفية النهائية للقضية الفلسطينية. ورفض السلطة المصرية لهذه المشاريع لا ينبع من مبدئية أو أخلاقية، بل من إدراك واقعي بأنه سيؤدي للكثير من الانفجارات التي تهددها.

ماذا لو قال الرئيس هذه الكلمة وفي المدن المصرية مظاهرات شعبية حقيقة تطالب بتجميد العلاقات مع إسرائيل؟

في لحظة إدراك الرئيس لعزلته، ووحدته، أدرك على الأغلب أيضًا هذه الفروق الضخمة في الحسابات بعيدة المدى بينه وبين الإمارات والمشايخ والممالك الخليجية، التي تصوَّر أنها ستحمي للأبد استمرار واستقرار سلطته. وأدرك الفروق في الحسابات قصيرة المدى، فنظامه يحاول، مثل أنظمة كثيرة في مختلف أنحاء العالم، تجنب المواجهة مع إدارة ترامب لأطول وقت ممكن، والمراوغة حتى تمر العاصفة أو تنتهي ولاية تاجر العقارات، باحثًا عن منافذ علاقات أكثر متانة مع الاتحاد الأوروبي أو مراكز قوى أخرى. في حين يتعامل حكام الخليج، الذين يحتاج الجميع نفطهم وغازهم، مع جميع الأقطاب العالمية، ويرمون بالثقل الأكبر في كفة ترامب.

لكن السؤال هو: هل أدرك الرئيس لحظتها أنه سجن نفسه في مصيدة صنعها بنفسه؟

إنها مصيدة مثلثة. أحد جوانبها أسسه السادات؛ الاعتماد على المعونة الأمريكية، مدنيًا وعسكريًا. ورث السيسي هذا الحائط من المصيدة. ربما كان باستطاعته أن يطمح خلال الأسابيع الماضية لتحطيمه إن كان قد رأى أي مؤشرات من إمارات وممالك الخليج بأنهم سيعوضون مصر عما ستخسره في حالة غضب ترامب واتخاذه إجراءات قاسية ضدها، وسيسندونها.

لكن الضلعين الآخرين من المصيدة صنعهما السيسي بنفسه، لم يرثهما من أحد. أولهما اعتماده الكامل على الخليج في حل أزمات مصر المالية والاقتصادية، وبيعه لأراضي وأصول ومرافق البلد الاستراتيجية تدريجيًا. متصورًا أن هذا سيجعله "الحليف العزيز"، صاحب الكلمة في مستقبل المنطقة، الشريك الذي لا يجوز ولا يمكن التصرف بمعزل عنه أو تجاهله.

أما الضلع الثالث والأخير من المصيدة، فعبَّرت عنه النكتة في افتتاحية هذا المقال. فسلطة السيسي لم تقمع فقط المتضامنين مع فلسطين والرافضين للتطبيع. بل ارتكزت على أسلوب القمع والتنكيل المفرط بكل من يجرؤ على التفكير أو القول. واعتمدت الرعب أداة أساسية لضمان استقرار النظام.

الفنادق المحلقة خارج ريفييرا غزة

أهدت قطر للرئيس الأمريكي أغلى قصر طائر في العالم. ليس فقط الأغلى، بل أيضًا الأكثر ابتذالًا وافتقادًا للذوق ببهرجته المذهبة المثيرة للغثيان. لكنها طائرة/قصر تناسب ذوق تاجر العقارات الفاسد المبتذَل الذي يحكم الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع أذواق الكثير من الأمراء والشيوخ والملوك.

لن أتحدث عن وصمة أن تتزامن الهدية مع المجاعة في غزة. فهناك طائرة أخرى تستحق التوقف أمامها؛ طائرة تُعلن عنها الممثلة الإسبانية العالمية بينلوبي كروز، طائرة شركة الخطوط الجوية الإماراتية. تقول بينلوبي في سلسلة إعلاناتها للشركة أنها تتنقل بين فنادق كثيرة، وأنها في حالة هذه الطائرة، خرجت من فندق في مكان ما، للذهاب إلى فندق في مكان آخر، عبر فندق ثالث وهو الطائرة، متغزلة في سحر الاستحمام بين السحاب.

https://www.youtube.com/watch?v=x7aLrl09RTc

دون الدخول في تفاصيل مواقف تقدمية "مفترضة" لهذه الممثلة وزوجها خابيير بارديم وعائلتهما، ودون التذكير بأن نجاحهما العالمي ضَمَن لهما الثراء للأبد، وعدم الحاجة لمثل هذه الإعلانات، أكتفي بالإشارة إلى أن هذه التفصيلة الإعلانية تعبِّر عن أحد الفروق المهمة بين ممالك وإمارات الخليج، والدولة المصرية.

هم قادرون على شراء الكثيرين، في كل المجالات، الفنية والثقافية والرياضية والسياسية. بينما لا تستطيع مصر شراء أحد. حتى المصري محمد صلاح لا يستطيع أي نادٍ مصري شراءه حين يحين وقت تركه الدوري الإنجليزي. لا تملك السلطة المصرية سوى شراء بعض الفنانين والمثقفين والإعلاميين متوسطي المستوى، المحليين، ليعملوا لديها، دون أن يكون لهم أي تأثير أو مصداقية حقيقية ولو داخل حدودها.

إنه الجانب البادي كوجه مهرج ساخر يتطلع للمصيدة التي صنعتها سلطة السيسي لنفسها. متصورة أنها ستنال بعضًا من هذه الوفرة غير النهائية من الأموال والريع الخليجي، وبسخاء يتجاوز حدود توظيف مجرد قطاع منه لخدمة استقرار نسبي للاقتصاد المصري وحل مشاكله مؤقتًا. بينما تتطلع سلطة السيسي مدهوشة للتريليونات التي أُلقيت في استثمارات دولة تاجر العقارات الأمريكي، كهدايا مقابل زيارة واحدة.

أما الجانب غير الساخر، بل المأساوي، فهو المتعلق بالقمع والبطش من مصيدة الرئيس، التي لا يعرف كيف يخرج منها. يقول الرئيس في بغداد: أكرر هنا، إنه حتى لو نجحت إسرائيل في إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل في الشرق الأوسط سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية.

ماذا لو قال الرئيس هذه الكلمة بينما هناك في المدن المصرية مظاهرات شعبية حقيقة، غير مصنوعة بمعرفة الأجهزة الأمنية، تهتف في الشوارع مطالبة سلطته بتجميد العلاقات مع إسرائيل، وفتح الحدود أمام شاحنات المساعدات والقوافل الطبية دون إذن إسرائيل؟! ماذا لو؟!

يعلم الجميع، مصريين وعربًا وأوروبيين وأمريكيين وإسرائيليين، متى تكون مظاهرات الاحتجاج والتضامن في مصر مصنوعة بمعرفة الأجهزة السيادية للدولة، ومتى تُعبِّر عن غضب شعبي حقيقي. يعلم الجميع أن لا قيمة للمظاهرات التمثيلية بعد صلاة عيد الفطر، وقوافل الأفراد المختارين للذهاب إلى رفح، بينما الشعب المصري لا يمكنه الذهاب إلى هناك. يعلمون أيضًا حقيقة أن النظام لو خفف من قبضته القمعية، ولم يمنع الشارع من التعبير عن غضبه وتضامنه مع غزة، كان سيمتلك وقتها الورقة الثقيلة المهددة، الكارت الحاسم الذي تملكه مصر؛ ثقلها الشعبي والسياسي والتاريخي. وساعتها كان الوضع بكل معادلاته سيتغير.

لكن جوهر المصيدة هو أن سلطة السيد الرئيس تعلم أنها فقدت هذا الكارت الحاسم. تعلم أن فتح الباب أمام الشارع، والتخفيف من قبضة القمع والتنكيل المطلقة، التي كرستها عبر 12 عامًا، أصبحت تهددها. يعلم الرئيس أن الخروج من المصيدة يحمل في طياته المخاطرة بالانتحار.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.