موقع الأمم المتحدة
محكمة العدل الدولية أثناء نظرها لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، يناير 2024

جرس إنذار نيكاراجوا.. من يحمي نضال الفقراء من أجل فلسطين؟

منشور الاثنين 14 أبريل 2025

فاجأت نيكاراجوا الجميع هذا الشهر بانسحابها من الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ثم عودتها مجددًا. كانت الدولة الأمريكية الوسطى الصغيرة التي لا تزيد مساحتها على 130 ألف كيلومتر، أول بلد ينضم رسميًا إلى الدعوى، بل وأقامت دعوى أخرى مهمة ضد ألمانيا تتهمها بمساعدة جيش الاحتلال، فتحت من خلالها مسارًا مهمًا لتتبع داعمي الإبادة.

ووسط ضَعف صوت الإعلام الرسمي في ماناجوا ومحدودية تأثيره تحت قيادة حكومة شمولية يسارية منغلقة بزعامة مشتركة لدانييل أورتيجا وزوجته روزاريو موريلو، أعلنت الحكومة مساء الخميس الماضي 10 أبريل/نيسان استئناف الإجراءات والعودة لدعم جنوب إفريقيا، لكن لم يتضح حتى كتابة هذه السطور كيف سيتم ذلك رسميًا.

نيكاراجوا لها إرث مميز في مقاومة الإمبريالية الأمريكية. ففي عام 1986 حصلت على حكم تاريخي أدانت فيه محكمة العدل الدولية الولايات المتحدة بدعم الهجمات الإرهابية التي شنتها ميليشيات الكونترا اليمينية، ومساعدتها في زرع الألغام ثم الامتناع عن الكشف عن أماكنها، وتشجيع قادة الكونترا على ارتكاب أفعال غير إنسانية، وألزمها الحكم بدفع تعويضات مالية عن خرق معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة الثنائية.

هذا الماضي المتمحور حول مناهضة واشنطن عسكريًا والانتصار على الميليشيات التابعة لها، ثم إصابة كبريائها في أكبر محفل للقانون الدولي، ثم استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يلزمها بتنفيذ الحكم (بمعارضتها مع إسرائيل والسلفادور فقط)، يزيد قرار انسحاب نيكاراجوا ثم عودتها غرابة، لا سيما في التوقيت، إذ تنتهي في يوليو/تموز المقبل المهلة الزمنية لرد حكومة الاحتلال على الاتهامات.

والانسحاب من عدمه لا يؤثر على القضية قانونيًا، ولكنه بالتأكيد يمنح الصهاينة فرصة للاصطياد في الماء العكر واستغلال الأمر دعائيًا ضد جنوب إفريقيا، والزعم بتراجع داعمي فلسطين وإقرارهم بأن الاتهامات "ظالمة أو مبالغ فيها" كما زعم وزير الخارجية الصهيوني جدعون ساعر تعليقًا على الانسحاب.

ضغوط وابتزاز لخلخلة الصفوف

من جلسة الاستماع لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية

لكن الأهمية الحقيقية تكمن في دق جرس إنذار يحذر الدول المعنية بالقضية والمتعاطفة معها، من مغبة المحاولات الأمريكية والإسرائيلية لخلخلة تحالف الدول التي أخذت على عاتقها النضال قانونيًا من أجل حقوق الشعب الفلسطيني منذ بدء العدوان الحالي، ومعها تلك التي بادرت إلى قطع أو تجميد العلاقات الدبلوماسية.

يضم هذا التحالف بشكل أساسي دول مجموعة لاهاي التسع التي أعلنت نهاية يناير/كانون الثاني الماضي دعم المحكمة الجنائية الدولية ضد التهديدات الصهيو-أمريكية، وهي جنوب إفريقيا وماليزيا وكولومبيا وبوليفيا وكوبا وهندوراس وناميبيا والسنغال وبليز، بالإضافة إلى دول أخرى أعلنت انضمامها لقضية الإبادة وهي المكسيك وتشيلي وأيرلندا وإسبانيا وتركيا وليبيا والمالديف، إلى جانب دول أخرى نشطت في إجراءات المقاطعة والحصار الاقتصادي للاحتلال والدعوة لذلك، مثل النرويج والبرازيل وفنزويلا.

هناك شواهد واضحة لتحركات منسقة ضد تلك الجهود. ففي سبتمبر/أيلول الماضي نشر أكسيوس تقريرًا عن حملة إسرائيلية موسعة للتواصل مع أعضاء الكونجرس الأمريكي للضغط على جنوب إفريقيا لسحب دعواها، والتأكيد على أن "الاستمرار في الجهد القانوني سوف تكون له عواقب وخيمة".

بالتزامن مع ذلك، ظلت وسائل إعلام ودوريات متخصصة إسرائيلية وأمريكية تهاجم معظم الدول سالفة الذكر طوال الشهور العشرة الماضية، مُحاولةً ربط التوجهات اليسارية لبعض قادتها بدعم إيران للمقاومة الفلسطينية، واتهامهم بالتعامل العنصري مع الجاليات اليهودية في دولهم، حتى بلغ الأمر في مجلة The Jerusalem Strategic Tribune الإسرائيلية حد المطالبة بـ"مراقبة أوضاع اليهود في تشيلي وكوبا وفنزويلا ونيكاراجوا". أما معهد دراسة معاداة السامية العالمية فزعم أن إيران وقطر تدعمان جنوب إفريقيا ودولًا أخرى بالمال والإمكانات الفنية للاستمرار في ملاحقة الاحتلال.

وبالنسبة لنيكاراجوا تحديدًا؛ شهد العام الجاري تصعيدًا دبلوماسيًا وإعلاميًا ضدها، بالتزامن مع إعلان تعديل دستوري يكرس صلاحيات تنفيذية كاملة للزوجين الرئيسين المشاركين، ثم أصدرت لجنة من خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تقريرًا يدين سياسات الحكومة ضد المعارضة والتضييق على الحريات السياسية والإعلامية، وحددت لأول مرة قائمةً من 54 مسؤولًا متهمين بالقمع والانتهاكات، ثم قرر مجلس حقوق الإنسان تمديد مهمة فريق الخبراء لعامين، موجهًا رسالةً واضحة لـ"الحملات الوحشية التي تشنها الحكومة، ومحاولاتها للعزلة بحثًا عن الحصانة، بانسحابها من بعض المؤسسات الدولية".

فهل يمكن اعتبار ذلك التصعيد المصحوب بتصريحات أمريكية جزءًا من الضغوط الواسعة على مؤيدي فلسطين؟

لا يمكن الجزم بذلك على ضوء التجاوزات الممتدة لنظام حكم السانديين بقيادة أورتيجا وموريلو، خاصة وأن دولًا أخرى داعمة لفلسطين صوتت لصالح استمرار التحقيق في الانتهاكات الداخلية، مثل البرازيل وتشيلي وكولومبيا. لكن ممارسات أمريكية ضاغطة تزايدت في أعقاب إعلان نيكاراجوا قطع علاقاتها مع إسرائيل، مثل التحقيقات التي أطلقتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن حول استضافة مراكز تجسس روسية، وارتكاب جرائم بحق العمال.

نموذج حيّ لفهم التفاعلات

بيان وزارة الخارجية في نيكاراجوا عن انسحابها من دعوى جنوب إفريقيا، مع تأكيدها على استمرار مساندة الشعب الفلسطيني، 4 أبريل 2025

ما يرجّح أيضًا احتمالات ممارسة الضغوط، السبب الذي أعلنته خارجية نيكاراجوا في بيان انسحابها؛ "زيادة الأعباء المالية لإجراءات التقاضي"، ما يبدو سببًا غريبًا ومبالغًا فيه، خاصة مع سرعة التراجع عن القرار.

وهناك احتمال آخر أن يكون إقدام نيكاراجوا على هذه الخطوة نوعًا من التلاعب في مواجهة ضغوطٍ ما، ولغايةٍ أخرى؛ تصحيح موقفها القانوني في الدعوى.

فقد استندت نيكاراجوا في انضمامها إلى دعوى جنوب إفريقيا مطالبة بتطبيق اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية على إسرائيل، إلى المادة 62 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، التي تنظم انضمام الدول التي "لها مصلحة ذات صفة قانونية يؤثر فيها الحكم في القضية"، وهو الشرط الذي ينطبق على فلسطين وحدها.

أما باقي الدول التي انضمت إلى الدعوى؛ فقد استندت إلى المادة 63 التي تسمح للدولة التي ليست طرفًا في النزاع بالتدخل "إذا كانت المسألة المعروضة تتعلق بتأويل اتفاقية هي طرف فيها"، وهو ما يسري بطبيعة الحال على جميع الدول الموقعة على اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية.

بالتالي يمكن لنيكاراجوا، نظريًا، التقدم بطلب تدخل جديد، وفقًا للمادة 63 هذه المرة، مثلما يحق أيضًا لأي دولة التقدم بطلبات تدخل، حتى يوم 28 يوليو/تموز المقبل المحدد كموعد أقصى لتقديم إسرائيل مذكرتها الأساسية ردًا على اتهامات جنوب إفريقيا، والمتوقع أن تبدأ بعدها المحكمة في عقد جلسات متتالية بآجال قصيرة وصولًا إلى الحكم.

من تغطية إعلام نيكاراجوا لتصريحات الرئيسة المشاركة موريلو تأييدًا للقضية الفلسطينية الأسبوع الماضي

هتفت الرئيسة المشاركة موريلو في ظهورها الإعلامي الأسبوعي الأخير يوم 10 أبريل "تحيا نيكاراجوا، تحيا فلسطين.. منارتين للحرية والتقدمية". لكن موقف نيكاراجوا ليس الجوهر الحقيقي لمعركة العدالة من أجل فلسطين، بل هو مفتاحٌ للرد على كثيرين يتصورون أن النضال القانوني يغلب عليه الطابع النظري فقط، وأن الاستثمار فيه لن يُجدي، وأن الانسداد نتيجته الطبيعية في ظل اهتراء المنظومة الدولية وانعدام آليات تنفيذ أحكام القضاء الدولي وضمانات احترامها.

وكل أخٍ بنصر أخيه حقُّ..؟

يتجاهل هؤلاء أن المعركة القانونية محفزة لعمل كبير لصالح القضية، فهي ليست منفصلة عن السياسة إطلاقًا، وإن احتلت الصدارة فيها دول بعيدة جغرافيًّا عن فلسطين، بل هي ساحة رئيسية تتجلى فيها موازين القوى في لحظة معينة، والنشاط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي لمختلف الدول المعنية.

يعكس النضال القانوني أيضًا مدى تقدم الدول في المجال الأكاديمي والبحثي، وقابلية نُخبها القانونية والدبلوماسية، تحديدًا، على التفاعل مع المستجدات السياسية، وتوظيف اجتهاداتها النظرية في فتح مسارات جديدة لرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، واستصدار أحكام وقرارات تسهم في تكريس المشروعية الدولية، ورفع سقف المقاومة العالمية للبلطجة الصهيونية والشطط الأمريكي.

كان بإمكان مصر وبقية الدول العربية "المهتمة بالقضية"، وما زال، استغلال هذه الساحة بتقديم الدعم المالي والاقتصادي والقانوني لمجموعة لاهاي وللدول المنضوية في دعوى جنوب إفريقيا، ومعظمها دول نامية أو فقيرة، والتصدي لمحاولات الضغط المتصاعدة التي يجب الاستعداد لاتخاذها صورًا مختلفة، من الاتهامات والتضييق والحرمان والملاحقة، حتى لا نُفاجأ بانسحاب دول ذات ثقل أو تراجعها عن بذل الجهد المنتظر.

وبالطبع يمكن استغلالها أيضًا بالمشاركة المباشرة في دعم دعوى جنوب إفريقيا بطلبات تدخل قبل يوليو المقبل، أو التقدم بطلب جديد من خلال الدعوى نفسها أو دعوى جديدة لاستصدار تدابير مؤقتة جديدة لوقف ممارسات الإبادة المتصاعدة والتدمير الكامل الرامي إلى التهجير القسري لأهالي غزة والتغيير الديموغرافي الكامل للقطاع. وهذا سوف يعيد توزيع الأدوار والواجبات بما يخفف الضغط عن مجموعة لاهاي.

"يرى الجبناء أن الجُبنَ حزمٌ".. وفي حضور الهمّة والإرادة، لن يُتحفنا البعض بتفسيرات عدمية للمعركة القانونية التي يهتم بها العدو ويمارس ضغوطًا بكل الصور لتفادي تبعاتها، وكأن العرب بذلوا جهدًا صادقًا في باقي الساحات. ولن تتردد ادعاءات بأن معاهدة السلام تمنع مقاضاة مصر لإسرائيل أو بالتأثير السلبي على دور الوساطة.

لقد تجددت فرصة مشاركة مصر وباتت أكثر إلحاحًا، بسبب اتجاه حكومة الاحتلال إلى إعدام كل فرص إدخال المساعدات الإنسانية مستقبلًا خاصة بعد تدمير رفح الفلسطينية وتحويلها إلى منطقة عازلة، مما يشكل تهديدًا غير مسبوق لسلامة الحدود الشرقية، فضلًا عن ادعاء بنيامين نتنياهو من المكتب البيضاوي أنه لم يحاصر غزة، في تدليس مفضوح واتهام ضمني للقاهرة.

فإذا لم نتحرك اليوم.. فمتى؟! وما الخط الأحمر الذي لم يخرقُه الصهاينة بعد؟!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.