
جلال البحيري.. مفيش سجن بالألوان
"كنت أَعْرَف إن زمان اللي كان بيتسرق منه محفظة أو عربية بيروح لأقرب قسم شرطة ويمكن يساعدوه.. لكني ما عرفش اللي بيتسرق منه عُمره يروح لمين ومين يساعده!"، في الخامس من مارس/آذار من عام 2023، سأل الشاعر جلال بحيري هذا السؤال ولم يتلق إجابة عليه، ولا على رسالته التي أرسلها من زنزانته بسجن بدر، معلنًا إضرابه عن الطعام بالتزامن مع مرور 5 سنوات على حبسه "خمس سنين عدوا بالتمام والكمال.. خمس سنين لو حاولنا نفكّهم ح يعملوا تقريبًا 1800 يوم وشوية أيام فكة".
ربما يكون رقم 5 سنوات، كما يقول جلال في رسالته، "شكله عادي وسط الأرقام.. لكنه لما يتحول لأوراق بتسقط من شجر عمرك.. يبقى رقم إبليس ومُخيف"، فما بالنا وقد انقضت بانقضاء الشهر الماضي، 7 سنوات ولا يزال جلال رهين الحبس الاحتياطي. أيُّ إبليس يكبر ويتضخم في شكل سنوات تمر على الإنسان ولا تحسب من عمره، ومن يدفع ثمن هذه الأيام المخصومة من الحياة؟
في مارس/آذار 2018، حين كان جلال بحيري في السابعة والعشرين من عمره، وفي مطار القاهرة حيث كان يستعد للسفر، ألقى الأمن القبض عليه، وأُخفي قسرًا، قبل أن يظهر في نيابة أمن الدولة العليا في اليوم التالي مُتهمًا على ذمة قضيتين، على خلفية كتابته كلمات أغنية وديوان شعر.
وجَّهت نيابة أمن الدولة العليا لجلال في القضية الأولى رقم 480 لسنة 2018 أمن دولة عليا تُهمًا من بينها "الانضمام لجماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، وإهانة رئيس الجمهورية"، وظل محبوسًا على ذمتها إلى أن صدر قرارٌ بإخلاء سبيله بتدابير احترازية في أبريل/نيسان 2019، رُفعت عنه لاحقًا في فبراير/شباط 2020، لكن قرار إخلاء السبيل لم ينفَّذ بسبب القضية الثانية التي نظرها القضاء العسكري بشأن ديوانه، وحملت رقم 4 لسنة 2018 جنح إداري المدعي العام العسكري.
وجَّهت له النيابة العسكرية تُهمَ "إذاعة أخبار وشائعات كاذبة بتأليف كتاب يحتوي على أخبار وبيانات كاذبة عن القوات المسلحة، وإهانة الجيش المصري"، لتعاقبه المحكمة العسكرية في 31 يوليو/تموز 2018 بالحبس 3 سنوات مع الشغل والنفاذ، وغرامة 10 آلاف جنيه، ولاحقًا، ألغى النقض الغرامة المالية وأيد حكم الحبس لمدة 3 سنوات مع الشغل والنفاذ.
ورغم قضاء عقوبته في قضية وإخلاء سبيله في الأخرى، جرى تدويره، كما صار معتادًا مع متهمين كثيرين، في قضية ثالثة تحمل رقم 2000 لسنة 2021 (حصر أمن دولة عليا)، باتهامات الانضمام إلى جماعة إرهابية على علم بأغراضها، ونشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة من شأنها الإضرار بالأمن العام، وهي القضية التي ما زال محبوسًا على ذمتها حتى اليوم، في تجاوز للحد الأقصى الذي يُقرّه القانون للحبس الاحتياطي.
طموح وموهبة
في عام 1991، استقبلت أسرةٌ مصريةٌ تسكن إحدى قُرى مركز بنها بمحافظة القليوبية، بكريها جلال، الذي سيصبح الأخ الوحيد لشقيقتين. منذ طفولته، حسبما يتذكر أحد أفراد العائلة لـ المنصّة، كان مختلفًا عن محيطه الاجتماعي، إذ "تمتع بشخصية قوية، وعقل وتفكير مختلفين تمامًا عن مكان معيشته ولم يُشبِه أحدًا ممن حوله. وكل قراراته كان يتخذها باستقلالية إلَّا إذا كانت تخص الأسرة. كذلك كان متفوقًا في دراسته".
حسب القريب، الذي طلب عدم ذكر اسمه، "حصل جلال على بكالوريوس تربية قسم لغة إنجليزية، واشتغل أكتر من شغلانة زي مدرس إنجليزي في مدرسة خاصة، ومترجم في شركة نقل"، لتكون هذه آخر مهنة له قبل أن يُسجن ويُحرَم من استكمال مسار حياته بمختلف صورها، وعلى رأسها صورتها شاعرًا برع في كتابة الشعر وأصدر عدة دواوين وانتشرت له قصائد وأغانٍ لاقت قبولًا.
حياة ببساطة
بحلول الذكرى السابعة للقبض على جلال، كتب محاميه، مختار منير، على فيسبوك عن "معاناة" موكّله، فقد سبق وحاول الاحتفال بانفراج أزمته في 2019 حين استُبدلت بحبسه الاحتياطي إجراءات احترازية، لكنَّ الواقع العملي مع تدوير جلال في قضية ثالثة حال دون أن يتحقق الحلم.
قبل هذا كله، كان جلال واحدًا ممن شاركوا في ثورة 25 يناير، كان كغيره ممن منحتهم الثورة أملًا في حياة أفضل، وشجعتهم على خوض تجارب جديدة، كما يقول صديق له عرفه في تلك الفترة بين عامي 2012 أو 2013، "تعرفنا من خلال دوائر الشعراء والموسيقيين. وكان بالنسبة لي اكتشاف، لأنه كان شاعر متعدد المواهب ومكانش مركز في النشاط السياسي بس زي اللي كان حاصل وقتها بين غالبية الشعرا".
يتفق كلام الصديق، الذي طلب من المنصة عدم نشر اسمه، مع ما انتشر من أشعار جلال التي تحولت إلى أغانٍ، منها الأغاني ذات الطابع السياسي الذي ذاعت بصوت المغني رامي عصام، ومنها أيضًا أغانٍ رومانسية ومتأملة في الحياة وأحوالها.
"كانت له نظرة وفلسفة بسيطة، كان شايف الكون بسيط، وله جملة كنت أسمعها منه دايمًا كأنه بيكلم الحياة، وهي يا أيها الكون السعيد، يا أيها الكون اللي فارد دراعه"، يذكر الصديق جلالَ في هذه الأيام، ويمدحه "كان صادق، خصوصًا في الكتابة، وإحساسه غالب في كل اللي أنتجه وده من أهم مزاياه".
نظرة جلال "المُبسطة" للحياة، كما يقول صديقه، كانت نقطة خلاف بينهما "ما كنتش شايفه خايف من حاجة ونظرته للدنيا بسيطة وكان عنده شجاعة الدخول في أي تجربة بمنطق إن الموج هيرفعنا، كان شجاع زيادة عن اللزوم، وكنت بنصحه بالتأني وإنه لازم يفكر كويس ويحسبها بالعقل قبل أي خطوة".
.. لا سجن بالألوان
كان جلال، حسب صديقه، "بيحب يخوض تجارب جديدة"، وكان "متعشم ببساطة الأمور"، دون أن يُدرك أن العواقب لن تقتصر على السجن، بل ستجلب أيضًا أزمات متعلقة به.
في مفارقة حزينة، اختار جلال لأول دواوينه الذي أصدره في عام 2016 عنوان سجن بالألوان. الديوان الذي مدح فيه شباب الثورة، وحمل اسم أغنية غناها المؤدي رامي عصام ربما كان نبوءة مبكرة لمصير سوداوي لم يكن على البال.
تنقَّل جلال بين ثلاثة سجون هي طرة تحقيق، ووادي النطرون، ثم عاد مرّة ثانية إلى طرة تحقيق، قبل أن ينقل مؤخرًا إلى مركز الإصلاح والتأهيل ببدر، وهو ما فاقم، حسب محاميه مختار منير، من معاناة أسرته طيلة 7 سنوات، سواء بمتابعتها للقضايا أو تكبدها مشقة السفر والانتظار لزيارته.
"كل هذا في اللا شيء، في النهاية لو كان جلال بيُحاسب على ارتكاب جُرم مُعيّن من وجهة نظر الدولة، فهو بالفعل قضى العقوبة، فما الداعي لتدويره في قضية جديدة واتهامه بنشر أخبار كاذبة وفق تحريات تمت أثناء وجوده في الحبس، حيث لم يكن يملك التواصل مع العالم الخارجي"، يقول منير لـ المنصة.
ويضيف "طوال السنوات السبع مُنع جلال من الحصول على كتب أو أوراق أو أقلام يمكنه استخدامها في محبسه، كما تتعرض الأسرة، كغيرها من آلاف الأسر، خلال الزيارات لتضييقات وساعات انتظار طويلة"، وهو ما يؤكده أيضًا قريبه، فـ"الأسرة تزوره مرّة شهريًا. وكثيرًا ما تتعرض لمضايقات في التفتيش، ورفض إدخال محتويات الزيارة كاملة، ومنها الكتب والأوراق والأقلام".
هذه صور للمعاناة يعلمُ بها مَن بالخارج، لكن هناك جوانب أخرى للمعاناة في السجن، ربما لا يعرفها الكثيرون، يحكي عنها واحدٌ ممن اختبروها وهو الصحفي والحقوقي مصطفى الأعصر، المُقيم حاليًا في كندا حيث يدرس بكلية ماسي بجامعة تورنتو، ضمن زمالة للصحفيين.
زامل الأعصر، جلال، في سجن طرة تحقيق عام 2018، وكما يقول لـ المنصة فإنهما كانا "زملاء لمدة سنة أو أكثر في نفس الزنزانة، وجمعتنا اهتمامات وأصدقاء مشتركين".
"هناك أفراد معاملتهم بتكون تحت بند شديدي الخطورة؛ فيتم تشديد الإجراءات عليهم، وده حصل وقتها مع جلال وحوالي 10 أشخاص آخرين كنت منهم وكذلك أحمد دومة وحازم عبد العظيم"، يتذكر الأعصر كيف كان زميل زنزانته يُعامَل بتعنت وعصف بحقوقه.
ويضيف "كان من صور التمييز ضد المصنفين ضمن شديدي الخطورة تشديد إجراءات الزيارة، فلا تكون في قاعة كبقية المحبوسين، بل في مكتب بحضور ضابط من الأمن الوطني"، مُعتبرًا ما يتعرض له جلال منذ عرفه حتى اليوم من "إخفاء قسري وتدوير وتعنت" رغم قضائه العقوبة.
استثنائي قضية
ما مرَّ به جلال في السجن انعكس على الحالة الصحية والنفسية له حيث أصيب بقائمة من الأمراض، وتحت وطأة ما لاقاه عانى من اكتئاب شديد،"قبل السجن كانت صحته كويسة، لكن تعب بعد السجن وبقى ياخد علاج للأعصاب لأنه كان بيعاني من تعب في الضهر، كمان جات له كورونا مرتين، وعمل جراحتين، واحدة للبواسير والتانية إزالة ورم في الفم بسبب إصابة قديمة"، يقول قريبه.
يشهد القريب أن إدارة السجن تتابع حالةِ جلال، وإن كان يتعرض في بعض الأوقات لـ"تعنتات" من قبيل "منع تحويله مؤخرًا إلى المركز الطبي". وحسب المحامي مختار منير فإنه "كان يعاني من مشاكل في القلب، وهذا مرض من عوامل تحسّن مريضه أو سوء حالته، الحالة النفسية، وجلال أُصيب باكتئاب نتيجة حبسه"، لافتًا إلى أنه سبق و"نُقل لمستشفى المنيل لإجراء جراحة الفك، ومنها إلى مستشفى السجن لتلقّي الرعاية الطبية، لكن حين تكرر الأمر لم يتم الاهتمام في البداية ثم تم علاجه".
رغم ما يُعانيه جلال من متاعب صحية متكررة، فإن خروجه من السجن، ولو بعفو صحي غير ممكن، لأن العفو الصحي حسب محاميه "يصدر للمحكوم عليه، بينما هو في مرحلة الحبس الاحتياطي"، مُعلّقًا "الأَولى بنا في حالته تطبيق القانون وإخلاء سبيله، وقد تجاوز حد الحبس، يعني إحنا لينا عند السلطة سنتين".
وضع بحيري واستمرار حبسه يجعله استثناءً في قضية أمس الدولة المحبوس علي ذمتها، التي أُخلي سبيل جميع المتهمين فيها عداه ومتهم آخر هو المخرج شادي حبش الذي يُذكّر الأعصر بأنه "ظل محبوسًا إلى أن توفي وهو على ذمة القضية".
رسالة الـضديات
لم يستسلم جلال لكل ما واجهه من تعسف، فاتخذ ردودًا احتجاجية، بينها إضرابه عن الطعام وعن تعاطي أدوية القلب والاكتئاب في 5 مارس 2023، بالتزامن مع مرور خمس سنوات على حبسه احتياطيًا، وهو الإضراب الذي أعلن تصعيده في يونيو/حزيران من العام نفسه، عبر رسالة "ضديات" التي أرسلها إلى خارج السجن، واختصم فيها "حياة جبر، وسجن قبر، وممنوعات عديدة".
من اللحظات الصعبة التي مر بها جلال في سجنه وأكثرها إيلامًا له ولأسرته كان منعه من حضور حفل زفاف شقيقته رغم أنه "أخوها الأكبر والوحيد"، فبعد رفض طلب رسمي تقدّم به محاميه للسلطات المختصة، اتخذ قرارًا بـالإضراب عن الطعام، ومع ما لاقاه على أرض الواقع وأنه "لم يُحدث أثرًا أو تغييرًا"، وفق المحامي، ما كان منه إلا أن حاول الانتحار.
كل هدف جلال هو "نيل الحياة" التي حاول رسمها من وجهة نظره، سواء قبل السجن، بأنشطته اليومية والاجتماعية مع رفاقه وبدواوينه "وسقط النظام"، و"حلّق حوش"، و"سجن بالألوان"، وآخرها الذي ذهب به إلى السجن "خير نسوان الأرض"، أو بالشهرة التي اكتسبها بعد السجن والتضامن معه.
التماسات للحياة
تتضامن منظمات حقوقية وثقافية مع جلال، منها حرية الفكر والتعبير التي تحاول تجنيبه مصير شادي حبش "الذي توفى داخل السجن نتيجة للإهمال الطبي" وفقًا لبيان حياة في خطر، الذي أصدرته عام 2023 بعد محاولته الانتحار، مُحذّرة من أن الواقعة "تثير المخاوف حول حياة جلال البحيري الذي لا يحظى بالرعاية الصحية اللازمة"، وطالبت حينها بـ"وضع حد للانتهاكات التي يتعرض لها، وإخلاء سبيله فورًا".
وسبق ودعت منظمة القلم الدولية إلى إطلاق سراحه، مُعتبرة في رسالة وجهتها لمسؤولين في مصر ما تعرض له من "اعتقال وتعذيب"، "اعتداءً صارخًا على حرية التعبير وحقوق الإنسان".
ووقت إضرابه عن الطعام، خاطبت منظماتٌ النائب العام من أجل "سرعة التدخل لإخلاء سبيله، حفاظًا على حياته". بل وفي تفاعل دولي مع قضيته، طالب خبراء أمميون بإطلاق سراحه، مُعربين عن "قلق عميق حيال ما يتردد عن تجريم الممارسات المشروعة بالتعبير الفنيّ، وبسلسلة من الاتّهامات المشكوك فيها".
كذلك، لا يألوا المتضامنون جهدًا لإنقاذ جلال، ومنهم مَن يستغل مناسبات لإثارة قضيته من جديد، سواء خاصة به كما كان في "الذكرى الخامسة لاعتقاله" عام 2023، أو عامة كما كان في فبراير الماضي بالتزامن مع إحياء اليوم العالمي للغة العربية، فحينها انتقدت مؤسسة القانون والديمقراطية "السجن بسبب كتابة شعر لم يعجب السلطة"، مُشددة على أنه "لا لغة حرة بلا حرية تعبير!"، مُطالبة بـ"الإفراج الفوري عنه، وباحترام حرية الرأي والتعبير، ووقف الملاحقات ضد الشعراء والكتّاب".
لكن هذه النداءات لم يكن لها مردود، حسب محاميه، الذي يؤكد عدم وجود أي ميول سياسية لجلال، كما أنه لا توجد أي خطورة يشكلها "ولم يحدث في أي مرّة وأن قامت السلطات بتسمية جماعة ينتمي لها"، وحسب زميل الزنزانة الأسبق مصطفى الأعصر فإن "جلال يُعاقب بأكثر من ضعف عقوبته، لماذا؟ لا نعلم! فقط حبس احتياطي مُطَوّل. لذا؛ كل ما أتمناه هو الحرية له ولكل مظلوم يتم تدويره بلا سبب".
"كلّما أُتيحت لنا فرصة، نذكّر جهات التحقيق بأن هناك شخصًا محبوسًا بالمخالفة للقانون"، هذا ما يستطيع محاميه القيام به في جلسات "الفيديو كونفرانس" التي يحضرها لتجديد حبسه، حيث "لا مساحة لتواصل حقيقي" بينه وبين موكّله.
ولا يبقى إلا الأمل تتمسك به أسرة جلال، فكما يقول قريبه "كل ما نتمناه خروجه وعودته لبيته وحياته، لأن عمره وشبابه حرفيًا بيضيعوا في السجن، وإخواته ووالديه في أشد الاحتياج له، لأنه المفروض كبيرهم وسندهم، لكن للأسف الوضع معكوس".
ويختتم مختار منير حديثه عن جلال "لو أقدر أقول حاجة، إنسانيًا وبعيدًا عن كوني محاميه، فأقول كفاية"؛ هذه الكلمة "كفاية" هي التي ربما بتحققها سيتحقق حلم الصديق الذي وجه رسالة لجلال "أتمنى أشوفك قريب".