تصميم: يوسف أيمن- المنصة

التربية الدينية.. درجات في المجموع وحرائق في المجتمع

منشور الجمعة 18 أبريل 2025

فتَح التعليم الحديث منذ انطلاقه في عهد محمد علي (1805-1848) لتخريج الكوادر اللازمة لمشروعاته التحديثية الباب لترسيخ المواطنة، مع الانعتاق التدريجي من تعليم "طوائفية" العصور الوسطى؛ حيث التركيز على دراسة العلوم الحديثة، والاكتفاء بتعليم الفرائض الدينية وقراءة القرآن دون امتحان، لتنتقل الانتماءات الدينية والطائفية الأساسية إلى منطقة ثانوية في تكوين الأجيال المتتالية من المصريين، ويحل محلَّها الانتماء للوطن.

ففي كتابه التعليم في عصر محمد علي، يشير أحمد عزت عبد الكريم إلى كتابٍ أرسله محمد علي إلى المديرين، بأن يوصوا المعلمين بالتخفف من إجبار تلاميذهم على حفظ القرآن، ليتفرغوا لتحصيل المعرفة. وحتى عام 1948، لم يكن إلزاميًا أن يدرس التلاميذ التربية الدينية، أو أن يمتحنوها.

ثم إنه في ذلك العام، قرر رئيس وزراء مصر إبراهيم عبد الهادي جعل التربية الدينية مادة أساسية لكن دون امتحان في جميع المدارس الخاضعة لإشراف وزارة المعارف. وفي عهد وزارة الصاغ كمال الدين حسين بعد ثورة يوليو؛ تقرر أن يمتحن الطلاب في التربية الدينية الإسلامية والمسيحية، وأن تكون مادة نجاح ورسوب ولكن لا تضاف درجتها لمجموع الطالب، الأمر الذي ظلَّ قائمًا حتى اليوم.

طوال نحو قرنين من التعليم الحديث، أدرك القائمون عليه خطورة إضافة درجات التربية الدينية إلى مجموع الطالب. فما الذي جدَّ لاستحداث هذه البدعة وكأننا نعيش في ظل حكم السلفيين والإخوان، مع ملاحظة أن مصر تعيش احتقانًا طائفيًا ممتدًا منذ نحو خمسين عامًا؟ ستكون لهذا القرار مخاطر وآثار، يمكن تلخيصها في الملاحظات التالية.

هل فكَّر أيٌّ مَن كان في الوصم الاجتماعي الذي سيلاقيه الراسب في مادة الدين؟

فات من يزعمون أن هذا القرار إجراء لازم لمواجهة "مظاهر الانحلال والفساد الأخلاقي" المتفشية في المجتمع، أن مصر التي تسودها مظاهر التدين، تسودها أيضًا مظاهر العنف والبلطجة والتحرش. أي أن مظاهر التدين لا تعصم الناس من الفساد.

ثم إن الأصل في الأديان أنها دعوة بالحكمة والعظة ولم تكن حفظًا وتلقينًا. لم يؤثر عن الرسول مثلًا أنه اختبر صحابته في حفظهم لآيات القرآن، أو أنه عاقب أحدًا على نسيانه أو سهوه. وكذلك بالنسبة للمسيح. فما الداعي لأن يخضع الدين، وهو الأصل التليد الثابت، لقواعد تنظيم ثقافي وسياسي حديث هو المدرسة، لم تعرفه البشرية إلا قبل ثلاثة قرون؟ الأَوْلى أن تخضع المدارس في تدريس الدين لمقتضياته وأصوله، لا العكس. 

لأسباب عديدة تتعلق بالمدرسة كمؤسسة للقمع والقهر، اعتدنا أن نسمع من بناتنا وأبنائنا "أنا أكره الكيمياء" أو "أكره الفلسفة" أو الجبر أو غيرها. وغالبًا ما تكون تلك الكراهية بسبب الإجبار على الحفظ أو العقاب أو عدم القدرة على تحصيل الدرجات والخوف من الفشل. ومشاهد تمزيق الطلاب كتبهم الدراسية أو رميها في الترع أو تحت عجلات السيارات، أو بيعها لباعة الترمس والفول السوداني، لا تخفى على أحد. فهل سنقبل راضين أن يقول أبناؤنا نحن نكره الدين؟

هل فكّر أيٌّ من كان في الوصم الاجتماعي الذي سيلاقيه الراسب في مادة الدين؟ فبعض التلاميذ يرسبون بلا شك. فهل نضمن ألا يتعرض من سيرسبون في الدين، وأولياء أمورهم، لملاحقات في القضاء بدعاوى عدم تأسيس أبنائهم دينيًا، وما أكثر المتطرفين من حولنا؟

لا توجد في مصر معاهد أو كليات لتخريج مدرسي التربية الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية. وجرى العرف على أن يُدرِّس معلم اللغة العربية التربية الإسلامية، كون جميع أقسام اللغة العربية في الجامعات تتضمن قدرًا مناسبًا من الدراسات الإسلامية، بينما يتولى أي معلم مسيحي أو حتى أمين المعمل أو أمين المكتبة تدريس التربية الدينية المسيحية. في ظل عدم إضافة درجات الدين للمجموع يمكن قبول ذلك، ولكن هل يستقيم هذا الوضع الغريب وهذه الدرجات الآن تتحكم في مصير ومستقبل إنسان؟

يبقى بعد ذلك أن الدين والفكر الديني ليسا مجرد حقائق علمية موضوعية، بل يلعب الوجدان دورًا كبيرًا في تحديد المواقف وتقدير الأمور فيها. فكيف سنضمن الموضوعية والنزاهة في التصحيح، مع حالات مثل خطأ بسيط لتلميذ في كتابة آية قرآنية. هناك من سيتغاضى عن الخطأ، لأنه جلَّ من لا يخطئ أو ينسى، ولكن هناك أيضًا من يرى في التغاضي عن الخطأ نفسه تفريطًا في حق الدين. 

إذا كانت التربية الدينية مادة درجات تضاف للمجموع، فمن أين سنضمن ألَّا يقول المتطرفون من المسلمين والمسيحيين إن واضعي الامتحان أو مصححيه من الطرف الآخر يُسهِّلون كل شيء نصرةً لأبنائهم، حتى يسبقوا الآخرين في القفز على كليات القمة؟

لماذا يربط وزير التعليم إضافة درجات مادة التربية الدينية إلى المجموع بمشروعه المزعوم لتطوير التعليم والذي يطلق عليه البكالوريا الجديدة؟ هل يعلم الوزير أن نظام البكالوريا التعليمي الممتد في الكثير من دول العالم وينضوي تحت جناحه طلاب ينتمون لعشرات العقائد والطوائف والأديان، لا يتضمن مادة للتربية الدينية مطلقًا، بل مادة اختيارية تسمى "ديانات العالم"؛ تتعلق بمعرفة الديانات المختلفة وفهم فلسفاتها، دون تفضيل أيها على الآخر، أو تمييز السماوية عن غيرها؟

أيها السادة، إن قضايا التعليم والعلم والمواطنة ليست "فرح العمدة"، يتاح لكل من هب ودب من المتطرفين أن يوجهها حيث يدفعه تعصبه، وإنما هي قضايا قومية ينبغي مناقشتها على الملأ، ليُعرف فيها حق الوطن وحق العلم والعصر والمستقبل، بعيدًا عن التطرف البغيض.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.