البعض يكتب اسمي الأخير "المرازي" بإضافة ياء في وسطه ليصبح "الميرازي" وبذلك يبدو أعجميًا أو فارسيًا، وبالتأكيد غير مصري.
لكن للاسم قصة جاءت مناسبة هذا الأسبوع لأحكيها لكم.
لقد اطمأننت على مصرية اسمي، وأنه يُكتب ويُنطق بشكل صحيح، من كلمات الأغنية الشعبية الجديدة دوشة للممثل والمغني محمد رمضان، الذي أجّل إصدارها لثلاثة أيام مراعاة منه لمأتم مُصاب عائلة وندسور في بريطانيا، بوفاة عميدة العائلة والكومنولث البريطاني، الملكة إليزابيث الثانية (96سنة).
وحين سُئل رمضان (34سنة) عن علاقته بحداد البريطانيين حتى يؤجل إصدار ألبومه، قال بكل تواضع "الملوك بيراعوا بعض".
أعترف أنني لست من المعجبين بفن محمد رمضان، رغم حبي للمغنيين الشعبيين بدءًا من أحمد عدوية وحتى عم شعبولا: شعبان عبد الرحيم. وربما يرجع ذلك لأنني لم أجد عدوية أو شعبان يحاولان التنصل من حياة البسطاء الذين غنوا لهم بكلماتهم ومفرداتهم وأمانيهم، بينما يحاول رمضان التشبث بحياة أغنى الأغنياء بطائرات خاصة ومظاهر بذخ أمراء الخليج والتمسح ببلاطهم، والتصوير في جوارهم ومع جواريهم.
بالتالي، يبدو النموذج الشعبي الذي يقدمه رمضان ليس مجرد الشكل القديم لقعدة حشاشين مستهلكين، بل أصبح الفيديو تحفيزًا لكيفية عيش تجار المخدرات وزعماء البلطجية.
رغم ذلك، لا أكره رمضان بل أحزن لما أعتقد أنه صراع هوية لدى شاب طموح ومبتكر في مجتمع طبقي يغني ويرقص شبابه معه لكن ترفض عائلاتهم طبقته وأصوله الاجتماعية، فيزداد تحدي ذلك الشاب للمتعالين عليه بالمزايدة عليهم بمظاهر رفاهية مبالغ فيها.
ولأنني أتعاطف مع رمضان، لكن لا أحب فنه أو أتابعه إلا كظاهرة، فلم أعرف بأغنيته الجديدة وكلماتها إلا من زوجتي المتابعة لكل الفنون، الجديد منها والقديم، فقد لفتت انتباهي إلى أن أغنية رمضان الجديدة فيها "مرازية" بنفس المعنى المقصود من اسمي في الصعيد، وهو: رازى.. يُرازي.. من الرَزيّة أو المصيبة، فهو مِرازي.. أي مُشكلجي، والعياذ بالله.
يغني رمضان في المقطع الثاني من الأغنية، والمصاحب في الفيديو لصورة ثلاثة أشقياء يحيطون بسيارة فيما يمسك أحدهم بسلسلة أو جنزير بيده:
وانا رايح أجيب العربية
راكنها بعيد أصلي شوية
حاسس بخيال و"بمرازية"
ودماغي مش فايقة الليلة ديّة
عاوزك تنساني وتلاشاني
مثبوت في بطاقتي أنا عنواني
مش حمل انتوا الوش التاني
تَلاشاني عشان أنا كده هعمل دوشة
دوشة.. دو دو.. دوشة
لكن الفارق بين الاسم المثبّت في بطاقتي والعنوان "المثبوت" في بطاقة بطل رمضان، أو البلطجي التقليدي الذي لايخشى مرازية أو أي دوشة، هو أن اسم "المرازي" الذي يَعرفني به كل الناس، غير مسجل في أي بطاقة تحقيق شخصية أو جواز سفر مصري أو أمريكي! وللقصة بداية.
في المدرسة وحتى نهاية الجامعة، كان زملائي وأساتذتي يعرفونني باسمي الثلاثي: حافظ محمد حافظ. وهي ثلاثية متكررة مع الكثيرين في عالمنا العربي، حيث يريد الأب أن يحمل ابنه أو أحد أبنائه اسم أبيه، أي جد الابن، عرفانًا به. وتتكرر المتلازمة مع كل جيل، ناهيك عمن يسمي ابنه بنفس الاسم مثل محمد محمد أو حنّا حنّا.
بينما لا يكرر الأوروبيون اسم الابن لو أرادوا أن يحمل نفس اسم الأب، بل يحمل الابن اسم الأب فقط ويضيف في نهايته Jr اختصارًا لكلمة جونيور أي الصغير. ويبقى الأب أو الجد Sr سنيور، أي الكبير.
ولو تكررت التسمية في نفس العائلة يصبح الابن الثاني والحفيد الثالث، مثل تشارلز الثالث بعد إليزابيث الثانية، هو ما نجده في المغرب تأثرًا بالتقاليد الفرنسية، حسن الثاني ابن محمد الخامس، وابنه محمد السادس، وفي الأردن تأثرًا بالتقاليد البريطانية، عبد الله الثاني بدلًا من عبد الله حسين عبد الله، وابنه حسين الثاني بدلًا من حسين عبد الله حسين!
لكن معضلة الاسم المكرر لم أشعر بها إلا بعد أن تخرجت في الجامعة والتحقت بالإذاعة المصرية في مسابقة عامة كانت لوظيفة مذيع محرر مترجم (معًا)، أي مطلوب في الامتحانات التحريرية أن تتمكن من القدرات الثلاثة، وبعدها في الامتحانات الشفهية يوجهون الناجحين لوظيفة واحدة من الثلاث المعلن عنها، يجدون المرشح أفضل فيها عن غيرها.
بعد فترة تدريب طويلة تولتها بكل عطاء وحرفية أستاذتنا المذيعة المخضرمة ميرفت رجب، سمحوا لنا أخيرًا أن ننطق أمام الميكروفون "صوت العرب من القاهرة"
دخلت مع مجموعة من الذين اختاروهم كمذيعين فقط. وبعد فترة تدريب عام أساسي على الإذاعة والنطق والإلقاء، تولاها الأستاذ صبري سلامة (1925-1994) رحمه الله، وقرر بعدها بناء على تقييمه، توزيعنا على مختلف الإذاعات المصرية في مبنى ماسبيرو، وكان نصيب الشاب المتدرب حافظ محمد حافظ إذاعة صوت العرب، كمذيع هواء وقارئ نشرة.
بعد فترة تدريب طالت لعدة شهور، تولتها بكل عطاء وحرفية وإخلاص أستاذتنا المذيعة المخضرمة ميرفت رجب، سمحوا لنا أخيرًا أن "ننزل الهواء"، أي ننطق أمام الميكروفون شعار المحطة "صوت العرب من القاهرة".
لكن قبل أن ينزل اسم كل واحد منا في جدول المذيعين، سألتنا الأستاذة ميرفت عن الاسم الذي سيستخدمه على الهواء أو حين يتم تقديمه لاحقًا كي يقرأ نشرة الأخبار بعد عمر طويل (لم ألحق قراءة النشرات الرئيسية حتى بعد سنوات هناك! هيَّ فوضى؟).
كان معي زملاء أسماؤهم إذاعية، خِلقة ربنا، مثل زميل الدفعة والصديق جمال الشاعر. لكن حين قلت لمدام ميرفت سأقول اسمي الذي يعرفني به زملائي في المدرسة وحتى الجامعة، حافظ محمد حافظ، قالت ضاحكة "هذا أشبه بالنداء في سوق الخضروات، فِجل لوبيا فِجل!". واستطردت بعد أن ضحك الزملاء "ألا يوجد في اسمك الرباعي أو الخماسي أو أبعد منه اسم جد يبدأ بالألف واللام، مثل الشاعر أو الكبير أو الصغير.. إلخ".
قلت لها يوجد لقب لاسمي الرابع أو صفة لكنها غير مسجلة كاسم في السجل المدني، رغم أن العائلة معروفة بذلك اللقب لأن جدي ذاك كان فلاحًا متمردًا وجريئًا ولا يسكت على ظلم، فأطلقوا عليه لقب المِرازي الذي يُرازي ولا يسكت أو يصمت على الوضع المايل. وبالتالي، أصبح هذا الفرع من العائلة معروفة بالمرازية، أولاد الجد الرابع لتمييزهم عن أبناء عمهم الدكروري، وسلطان، وغيرهم.
ففي الصعيد، بسبب عادة الثأر، كانت العائلات تتفرع كل عدة أجيال حتى لا يحمل كل أفراد العائلة الكبيرة دمًا عليهم أو لهم ليثأروا له أو يحملوا عار عدم أخذه. بالتالي، تتفرع العائلات بتسميات لها سواء بلقب أو صفة لجد، حتى لايتحمل الجميع وزر أبناء عم من الدرجة السادسة أو العاشرة.
سعدت مدام ميرفت باللقب، وكأنها وجدت ضالتها، وقالت يمكنك على الهواء نطق اللقب بتضخيم الراء وليس بتسكينها أو بترقيقها (بلهجة المنيا) ليصبح "المِرَازي".. واتفقنا!
لكن، الذي كان يدير شؤون مذيعي الهواء أو التنفيذ الذي يتعين أن يوافق على الأسماء الواردة في جدول المذيعين، وهو الأستاذ محمد سناء رحمه الله، وكان بلدياتي، اعترض على الاسم الذي اقترحته مدام ميرفت، وحاول إقناعها بأن معناه عندنا في الصعيد المشاغب أو مثير المشاكل.
ووسط ضحك كبير مذيعي صوت العرب وقتها، الأستاذ محمود سلطان (1941-2014) رحمه الله، وكانت من مسؤولياته وضع الجدول الأسبوعي لمذيعي الهواء، دافعت ميرفت عن اختيار الاسم وذكّرت سناء بأن مدير صوت العرب وقتها اسمه حلمي البلك، فهل توقف الناس عند تسمية البُلُك، أو سلفه في إدارة صوت العرب محمد عروق، هل سألنا أحد "عروق إيه"؟!
سألني الأستاذ سناء "هل أنت معها في هذه التسمية يا حافظ؟" قلت له "نعم.. وبالتأكيد!" وسأل سلطان، فأيد ضاحكًا.. فلم يكن منه إلا أن قال "خلاص، ذنبك على جنبك.. إن شالله حتى يسموك أبو شومة". وقُضيَّ الأمر!
على مدى أربعين سنة، منذ ذلك الحين، أصبح الاسم المعروف "حافظ المرازي".. ولم أخيب ظن أحد ممن عرفوا أصل التسمية وصفة الجد مِرازيًا، حفيدًا عن جَد، بجد!