بإذن خاص للمنصة
جانب من الجلسة العرفية بقرية نزلة جلف بالمنيا، 24 أكتوبر 2025

بعد اعتداءات طائفية.. حكم عرفي بتهجير أسرة مسيحية في المنيا وتغريمها مليون جنيه

محمد نابليون
منشور السبت 25 تشرين الأول/أكتوبر 2025

قرر مجلس تحكيم عرفي انعقد بقرية نزلة جلف التابعة لمركز بني مزار بالمنيا، أمس الجمعة، للنظر في مزاعم خطف فتاة مسلمة على يد شقيق صديقتها المسيحي؛ تهجير الشاب من القرية "على الفور" وإمهال أسرته خمس سنوات للمغادرة، مع تغريمها مليون جنيه، وفق ما ذكره اثنان من المحكمين العرفيين المشاركين في القرار لـ المنصة.

وجاءت هذه القرارات بعد يومين من انتشار مقطع فيديو على السوشيال ميديا تُوثِّق رشقًا لمنازل وأعمال عنف، قيل إنها تستهدف بيوت المسيحيين في القرية، تطورت لاحقًا إلى حرق بعض محتويات الأراضي الزراعية المملوكة لهم. 

وسمح قرار مجلس التأديب، حسب مقطع فيديو، لعائلة الفتاة التي تتهم الشاب بحمل ابنتهم إلى منزله بعد تعرضها للإغماء، في المسار القضائي الذي لجأت إليه، وعدم إلزامها بالتنازل عن محاضرها الرسمية .

وفيما لم يتضمن منطوق القرار الوارد في الفيديو أي بنود تخص قرار التهجير، أقر المُحكّم العرفي محمد الشاروني، أحد المشاركين في القرار، في تصريحات لـ المنصة، بأن مجلس التحكيم انتهى إلى ضرورة ترك الشاب للقرية بصورة فورية بينما مُنحت أسرته فترة تصل إلى خمس سنوات لترتيب أوضاعها ومغادرة القرية "دون ضغط أو إجبار"، على حد قوله.

وبرر الشاروني تشديد العقوبات بقوله "الحكم كان ضروري أن يصدر رادعًا بهدف امتصاص غضب أهالي القرية ومنع تكرار مثل هذه الحوادث التي تهدد السلم المجتمعي".

لكن الباحث إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، شكك في رواية الخطف، وأشار إلى عدم منطقية العقوبات متسائلًا "إذا كانت الإجراءات القضائية الرسمية ستستمر ضد الشاب، فلماذا يُجبر على دفع مليون جنيه؟ وإذا كان سيُهجّر من البلد، فلماذا يدفع؟". وأضاف أن مبلغ المليون جنيه كـ"ديّة" رقم مبالغ فيه جدًا، حتى بمقاييس دية القتل العرفية.

روايتين كالعادة

المحكم العرفي هاني الباسل متحدثًا بالجلسة العرفية، 24 أكتوبر 2025

وفي تفاصيل ما حدث؛ قال الشاروني إن ممثلي أسرة الفتاة اتهموا الشاب أمام مجلس التحكيم العرفي، وفي حضور ممثلين عرفيين عن عائلته، بحملها عندما أغمي عليها في أحد المحال "بدأت القصة عندما ذهب الشاب لشراء بعض مواد البقالة من دكان تملكه أسرة الفتاة، وهناك أُغمى عليها لأسباب غير معلومة، وبدلًا من طلب المساعدة، نقلها الشاب إلى منزله وأخفاها". 

وأضاف "عندما بدأ أهلها البحث عنها وسألوا أسرة الشاب، أنكروا وجودها، إلى أن أرشدهم أحد الجيران إلى أنها داخل المنزل، حيث وجدوها مغمى عليها".

وأكد الشاروني أنه تم توقيع الكشف الطبي على الفتاة وثبت أنها "عذراء ولم يمسها أي سوء"، لكنه أوضح أن ما أثار غضب الأهالي هو سلوك الشاب وأسرته، وقال "اللي صعّب المسألة على الناس إن البنت اتاخدت وانسألوا قالوا مش هنا، كان إيه الهدف من كده؟ لكن لو كانوا قالوا إن البنت عندهم وأغمى عليها وهي قاعدة مكنش هيحصل حاجة، إنما تنكر وتقفل الباب وتخش تلاقيها على سرير في آخر أوضة من جوه، طب ما ده شيء برضه يثير الشك والريبة".

في المقابل، انتقد إسحق إبراهيم تبنّي اللجنة العرفية رواية "الخطف" التي قدمتها أسرة الفتاة، متجاهلة الرواية الأخرى التي تتحدث عن علاقة عاطفية، وهو ما اعتبره "أمرًا متوقعًا في ظل أن هذه الجلسات تعكس توازنات القوى على الأرض، وتهدف إلى إخماد الحرائق لا معالجة جذورها".

العقوبات بين "الردع" و"الفُجر"

لم ينكر الشاروني أن رأيه داخل مجلس التحكيم العرفي كان مناهضًا لفكرة تهجير أسرة الشاب المسيحي من القرية، لكن الغلبة في الأخير انتهت لذلك الأمر من باب "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، مضيفًا "الواد ده لو قعد كان ممكن يموت، التهجير كان لحمايته وحماية أسرته وتهدئة الأجواء".

"وبعدين إحنا رحنا الجلسة، لقينا الأسرتين متفقين وماضيين على ورق بهذه المبادئ بحضور اللواء عادل مكرم من مديرية أمن المنيا وحضور محمود يحيى عمدة البلد، إن يمشوا من البلد فلان، رحنا لقيناهم هم مخلصين كل شيء، وبالتالي تدخلنا الأكبر كان في تحديد مبلغ العقوبة المالية" وفق الشاروني، الذي وافقه في ذلك المحكم العرفي هاني الباسل، الذي شارك في إصدار العقوبات وظهر في الفيديو وهو يتلو القرارات.

وأكد الباسل لـ المنصة أن القرارات النهائية جاءت بعد نقاشات طويلة شارك فيها 13 محكمًا، معلقًا على اتهامات التحيز في الحكم وفقًا للديانة "أنا رايح للكل مش للمسلم ولا للمسيحي، مليش دعوة ولا علاقة بحد، لأني هتحاسب على حكمي يوم القيامة، أهم حاجة إننا طلعنا بأمان للناس كلها".

وحول الانتقادات التي وُجهت للحكم، أوضح الباسل أن القرارات تعكس رؤية المحكمين في تلك اللحظة الحرجة، قائلًا "اللي مش في المعمعة يقول اللي عايز يقوله، لكن البلد كانت مربوكة، وكان لازم تمتص غضب الشباب، وطبعًا التحكيم ده حسب رؤية المحكم، هم شايفين كده".

وشدد الباسل على أن الهدف من الجلسات العرفية ليس فقط معاقبة المخطئ، بل إعادة الاستقرار للمجتمع. وقال "الفلوس رايحة وجاية، أهم حاجة المحبة والسلام بين الناس، أقسم بجلال الله الواحد حزين، عايزين مصر دي تبقى نظيفة، المسلم أخو المسيحي والمسيحي أخو المسلم".

وفيما بدا الباسل أكثر تحفظًا على سرد ما جرى بالمداولات داخل المجلس العرفي، أكد الشاروني أن مبلغ العقوبة شهد اقتراحات بدأت من 400 لـ500 ألف جنيه إلى أن وصل لمليون ونصف مليون جنيهًا لكن تم تخفيضه إلى مليون جنيه "كرامةً لجد الواد، اللي وقف في الجلسة وقال أنا ابن ابني غلطان وإن الواقعة لم تشهد أي تعمد أو قصد منهم لإخفاء البنت".

طالبت النائبة مها عبد الناصر بسرعة إنشاء "مفوضية مكافحة التمييز"

ويرى الشاروني أن الحكم لم يكن تمييزيًا، مستشهدًا بواقعة سابقة في نفس القرية، حيث أبلغه عمدة القرية بتطبيقه ذات العقوبة على شاب تحرش ببنت مسيحية وقرر تركه القرية، مؤكدًا "إحنا لا نفرق في تطبيق العرف على أساس الدين".

لكن المسؤول بالمبادرة المصرية يؤكد استحالة إجبار شاب مسلم على ترك منزله في القرية بسبب واقعة مماثلة عوضًا عن استحالة المساس بأهله، مشددًا على أنه يأخذ على المنطق الذي استند إليه المحكمون في تكييف الواقعة عدم منطقيته.

وقال "هل هناك ما يسمى بخطف مقصود وخطف غير مقصود؟ لا يوجد شيء كهذا لا في القانون ولا في المنطق، إما أن تكون هناك جريمة خطف فنتجه للنيابة، أو لا يوجد خطف من الأساس". 

وأضاف الباحث الحقوقي أن فكرة الخطف في قرية ريفية حيث الجميع يعرف بعضه البعض هي "من رابع المستحيلات".

وتابع "أنا أتفهم أن تهجير الشاب قد يكون ضروريًا في بعض الأحيان في الأرياف لتهدئة الأوضاع، لكن القصة على بعضها بما تضمنته من تحميل المسؤولية الجماعية للمسيحيين بحرق عشش تخصهم في أراضي زراعية ورشق منازلهم، إلى المبالغ المالية الضخمة، إلى قرار التهجير، كلها تحمل قدرًا من الفُجر".

وحذر إبراهيم من أن أخطر ما في قرارات الجلسة العرفية هو الرسالة التي توجهها للمجتمع، قائلاً "رسالة الجلسة للناس واضحة: لا تستضيف مسيحية مسلمة في بيتها، ولا مسلمة تذهب عند مسيحية، لقد تم وضع قاعدة بأن مجرد الوجود في منزل الطرف الآخر أصبح شبهة، وبهذه الطريقة، يتم تدمير نمط العلاقات الاجتماعية الذي كان لا يزال باقيًا في الريف، حيث كان الناس يسألون عن بعضهم البعض".

مطالب بالتحقيق

من جانبها، طالبت النائبة البرلمانية السابقة والمرشحة الحالية ضمن القائمة الوطنية عن محافظة المنيا مها عبد الناصر، بضرورة إجراء تحقيق عاجل وشفاف في تفاصيل الواقعة وتطبيق حاسم للقانون على جميع الأطراف دون تمييز، معلنة رفضها للجلسات العرفية "لأنها تكرّس مناخ الإفلات من العقاب وتضعف الثقة في مؤسسات الدولة".

ورفضت مها عبد الناصر النظر إلى الاعتداء على منازل المسيحيين وزراعاتهم باعتباره حادثًا فرديًا "بل هو حلقة جديدة في سلسلة متكررة من الوقائع التي تضرب في عمق النسيج الوطني"، مشددة على أن "تكرار هذه الأحداث يؤكد وجود جذور اجتماعية وثقافية للتوتر لا يمكن معالجتها بالحلول الأمنية المؤقتة أو بجلسات الصلح العرفية الشكلية".

واعتبرت أن الحل الجذري يكمن في سرعة إنشاء "مفوضية مكافحة التمييز"، التي تم تقديم مشروع قانونها منذ عامين ولم يُناقش حتى الآن رغم كونها استحقاقًا دستوريًا، مؤكدة أن تفعيل هذه المفوضية لم يعد ترفًا سياسيًا بل أصبح "ضرورة وطنية عاجلة" لمواجهة خطاب الكراهية والتعصب، منوهة إلى أن ما جرى في المنيا هو جرس إنذار جديد يستوجب وقفة حقيقية من كافة مؤسسات الدولة والمجتمع.