فيما بدا أنه انهيار لبيئة عمل النواب بقسم النساء والتوليد بكلية الطب جامعة طنطا، تقدمت ثماني طبيبات من أصل 15 من دفعة واحدة باستقالتهن من القسم، في خطوة وصفتها إحداهن بأنها "إفراج" من "مكان سام يسرق الأحلام".
أريعة من الطبيبات المستقيلات تبنيّن حملة تدوين على حساباتهن بفيسبوك، قدمن خلالها شهادات صادمة حول ظروف العمل التي دفعتهن للتخلي عن حلمهن، تراوحت بين العمل لـ82 ساعة متواصلة، والعقاب الجماعي بالبيات على الأرض لأسبوع، والإهانات المتكررة.
من جانبه قال نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي لـ المنصة إن النقابة تتابع عن كثب أزمة الاستقالات الجماعية لنواب قسم النساء والتوليد بجامعة طنطا، مؤكدًا أنها ستتواصل بشكل عاجل مع إدارة كلية طب طنطا لبحث المشكلة وإيجاد حلول جذرية لها.
وتواصلت المنصة مع رئيس قسم النساء والتوليد بكلية طب جامعة طنطا الدكتور أحمد توفيق الذي أكد أن الكلية بصدد إصدار بيان للرد على الشكاوى، ولم يوافنا بأي تفاصيل حتى موعد النشر.
"نواب زبالة".. استنزاف نفسي وجسدي
"حين يُصبح الاستمرار خيانة للنفس، يكون الانسحاب احترامًا لها"، بهذه الكلمات لخصت الدكتورة رنيم زنطوط، إحدى الطبيبات المستقيلات، دافعها لترك العمل، مؤكدة أن التجربة التي كانت تأمل أن تكون تعليمية تحولت إلى "استنزاف بدني ونفسي تحت مظلة نظام لا يُنصف ولا يُطوّر".
وأضافت أن بيئة العمل كانت بعيدة كل البعد عن المهنية والدعم، مع "تطبيع مزعج مع الإهانة"، حتى وصل الأمر إلى أن قيل لهن صراحة "نواب زبالة".
تتفق معها الدكتورة رنين جبر، آخر النائبات المستقيلات، والتي أكدت أن الاستقالات كانت نتيجة منطقية لسياسة ممنهجة بدأت حين قيل لهن "وجودكم غير مرحب به، قدموا استقالاتكم وامشوا". وأضافت "كانوا يريدون أن يروا منا الانهيار الجسدي، وأن يكون المبيت على الأرض نظامًا وليس استثناءً".
واتصالًا بأسباب الاستقالات أيضًا، تقول الطبيبة سارة مطاوع، صاحبة الاستقالة السابعة بين زميلاتها النائبات "لم يكن قراري بترك نيابة جامعة طنطا سهلًا، فقد كان حلمًا له ميزتان واضحتان؛ التعليم المتميز، وفرصة الحصول على الماجستير في أقصر وقت، لكنني اكتشفت أنني كنت أتحمل كل عيوب نيابة الجامعة القاسية مقابل لا شيء".
وفضلًا عما وصفته بـ"السلطوية الإدارية الخانقة"، حاولت سارة مطاوع إيجاز عيوب العمل كنائبة بالجامعة في "وقتك كله ملك للقسم، حتى يوم الأوف ليس من حقك، نعمل في أوقات لـ72 ساعة، لا يُسمح لنا خلالها بمغادرة القسم لنغير ملابسنا. لا يوجد مكان آدمي للراحة، ولا حمام نظيف، ولا وقت محدد للأكل أو الصلاة، فنحن نأكل ونُصلي سرقة".
بينما كشفت باقي الشهادات عن ظروف عمل أخرى غير آدمية، إذ أوضحت رنين جبر أن نبطشيات العمل كانت تمتد من 48 إلى 72 ساعة، تتبعها "ساعات مرور" ليصل إجمالي العمل المتواصل إلى 82 ساعة، وتضيف "والله كنا ننام في الـ82 ساعة أقل من ست ساعات، كنا ننام على الأرض أو على أسرة الولادة، وأحيانًا على الكرسي لعدم وجود مكان".
فيما تؤكد الدكتورة هايدي هاني، النائبة السادسة المستقيلة، أن مكان النوم المخصص لهن كان "غرفة بها مرتبتان على الأرض تنام عليهما القطط"، وهو ما عرض إحدى زميلاتهن للسرقة وهي نائمة.
وحددت سارة مطاوع في تدوينتها مصدر تلك السلطوية حين قالت "لم يكن لنا الحق في الاعتراض أو حتى توضيح وجهة نظرنا لمن يكبرنا بشهور، وإلا فالعقاب حاضر".
عقوبات جماعية
لم يقتصر الأمر على ضغط العمل، بل امتد إلى العقوبات الجماعية غير المبررة. تروي الدكتورة رنين جبر "ذات مرة عوقبنا جميعًا بالبيات في المستشفى لمدة أسبوع كامل، ننام فيه على الأرض ونُمنع حتى من الاستحمام في السكن"، وتضيف هايدي "طُلب مني الساعة 4 فجرًا أن أجد مكانًا لمريضة لا تملك مالاً في العناية، وقيل لي: اتصرفي".
كما أكدت الطبيبات أنهن كن يُجبرن على القيام بمهام خارج نطاق عملهن الطبي، حيث كانت الجملة الشهيرة "لو مش عارف تمشي الميسات والعمال اعمل شغلهم".
ولا تمثل هذه الظروف حالة عامة في كل أقسام الكلية، وفقًا لسارة مطاوع، التي كتبت "في كل الأقسام الأخرى، هناك قيمة للنائب، أما في قسمنا فلا قيمة لنا "أنت تحارب وحدك"، وتساءلت مستنكرة "كيف تكون لك قيمة ومن المفترض أن يمنحك إياها خاسف بمكانتك الأرض؟"، وأكملت "هم لا يريدوننا، يعتبروننا عالة عليهم، وكأننا سنأخذ من رزقهم لو خرجنا أطباء جيدين".
لا تعليم.. لا ماجستير.. لا كرامة
أجمعت الطبيبات على أن المقابل لكل هذا "الاستعباد" كان "لا شيء"، فبينما وُعدن بفرصة للتعلم والحصول على الماجستير سريعًا، وهو ما يميز نيابة الجامعة، كانت الحقيقة عكس ذلك تمامًا، تقول رنين جبر "بعد 11 شهرًا، لم أتعلم سوى تعقيم الجلد"، وتضيف هايدي "أردنا أن نقدم في الماجستير مثل زملائنا، فكان الرد: لا، لازم تكملوا 6 شهور، وهو اختراع من القسم ليس له أي أساس قانوني".
لقد تحولت "ميزة" نيابة الجامعة إلى "لعنة"، على حد تعبير الدكتورة رنيم زنطوط. ورغم الألم، ترى الطبيبات أن استقالتهن كانت قرارًا صائبًا. تقول هايدي "لقد اشتريت نفسي وصحتي وكرامتي. هذا المكان السام علمني قيمة راحة البال". أما رنيم فتختتم "استقلت لأنني ما زال لدي طموح، وهذه ليست النهاية، بل بداية جديدة لحلم آخر".
وفي السياق، شدد نقيب الأطباء، على أن النقابة سبق وأصدرت ضوابط واضحة وملزمة لجميع المستشفيات والجامعات بشأن ظروف عمل الأطباء، قائلًا "لقد حذرنا 100 مرة من تشغيل الأطباء لساعات عمل طويلة وغير إنسانية، لا يجوز تحت أي ظرف أن يعمل الطبيب 48 ساعة متواصلة، وأي يوم نبطشية يجب أن يليه يوم إجازة كاملة، وهذا حرصًا على سلامة المرضى قبل الأطباء أنفسهم".
وأكد نقيب الأطباء أن هذه المشكلة ليست جديدة، مشيرًا إلى أن النقابة تدخلت في أزمة مماثلة شهدتها كلية طب الإسكندرية منذ ستة أشهر، والتي شهدت استقالات جماعية لنفس الأسباب.
وأضاف "منذ تلك الواقعة، ونحن نؤكد باستمرار على ضرورة تحسين بيئة العمل وتوفير سكن آدمي للأطباء".
وردًا على سؤال حول الأدوات التي تملكها النقابة لمحاسبة المخالفين، أشار عبد الحي إلى أن دور النقابة هو تحديد الموقف الصحيح ووضع الضوابط، لكن تنفيذ هذه الضوابط ومحاسبة المسؤولين التنفيذيين يتطلب تحركًا من الجهات المعنية، مشددًا على ضرورة مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن تشغيل الأطباء تحت هذه الظروف "وهو قرار بيد المسئولين التنفيذيين".
واختتم حديثه قائلًا "سندرس تفاصيل ما حدث في طنطا، وسنصدر بيانًا رسميًا يوضح موقف النقابة النهائي من الأزمة، هدفنا هو إصلاح الأمور وضمان بيئة عمل آمنة وكريمة للأطباء".