لم يكن هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من بلاده في يناير /كانون الثاني 2011 بحد ذاته حدثًا مؤثرًا في تغيير طبيعة المحاور الإقليمية القائمة في الشرق الأوسط. حينها؛ تعامل الجميع مع ما جرى باعتباره شأنًا داخليًا تونسيًا يمكن أن يحتويه النظام هناك، ولن يُحدثَ تغييرات كبيرة في شكل الأحلاف التي تتناحر في الشرق الأوسط ممثلةً في محور ممانعة، وآخر مناوئ يرفع لافتة الاعتدال.
في غضون الأيام العشرة التالية على هروب بن علي كتبت الأقلام كلامًا كثيرًا وصاغ إعلاميون وأكاديميون عبارات رنانة انتهت جميعها إلى أن "مصر مش تونس بسبب اختلاف طبيعة النظام والمجتمع هناك عن هنا". لكن ما حدث في عصر اليوم الحادي عشر لهروب بن علي غيّر كل شيء، وبدا الأمر أشبه بكرة ثلج تتدحرج لتطيح بالجميع.
وبعكس ما جرى في تونس، وبعد أن أطلَّ عمر سليمان من شاشة التلفزيون المصري مساء 11 فبراير معلنًا "تخلي" مبارك عن منصبه، عرف الجميع أن حقبةً جديدة من الصراعات والتحالفات الإقليمية في الشرق الأوسط ستبدأ في التشكل والتغيّر من جديد.
قبل الحادي عشر من فبراير 2011 كان الشرق الأوسط خاضعًا لاستقطابات محورين إقليميين رئيسيين بلورتهما المواقف من حرب تموز التي شنتها إسرائيل على حزب الله في لبنان في صيف 2006 وما تلاها. جمع المحور الأول مصر والسعودية والإمارات والأردن وعرف حينها بمحور الدول المعتدلة، بينما شكلت إيران مع قطر وسوريا وحزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة ما عرف بمحور الممانعة. وبسبب طبيعة الشرق الأوسط المعقدة كان أعضاء هذه المحاور منخرطين في تحالفاتٍ أخرى، حتى وإن بدت للوهلة الأولى متعارضة مع طبيعة المحاور المنتمية إليها.
قطر مثلًا؛ اتخذت من الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيًا وحاميًا لها من خلال القواعد العسكرية التي شنت منها واشنطن حروبها في أفغانستان والعراق. تمتعت الدوحة أيضًا بعلاقات جيدة واتصالات بعضها كان علنيًا مع تل أبيب، وفي الوقت نفسه كانت تدعم حزب الله إعلاميًا وسياسيًا خلال حرب 2006. لم تجد دمشق أو طهران مشكلة في علاقات حليفتهما مع واشنطن أو تل أبيب.
في النصف الثاني من 2009 بدأت قطر وتركيا التي كانت تتمتع بعلاقات تعاون ممتازة مع دمشق، في التمهيد لعودة بشار الأسد إلى المجتمع الدولي بعد أن ظل معزولًا منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وذلك من بوابة المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل تمهيدًا لتوقيع اتفاق سلام.
لكنَّ خريطة المنطقة السياسية كانت على وشك التغير بشكلٍ دراماتيكي بعيدًا عن القضايا الرئيسية التي قسّمت مواقف الحلفين خلال الأعوام العشرة الأولى من الألفية الجديدة.
أحلاف تتشكل وتتمزق
في صباح الخامس والعشرين من يناير لم يكن أحدٌ يتخيل أن مبارك سوف يرحل عن الحكم بعد 17 عشر يومًا. في واشنطن كان الرئيس باراك أوباما يعتقد أن بإمكان إدارته العمل مع مبارك حتى ميعاد مغادرتها البيت الأبيض. وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حريصة على أن تكون تجربة إدارة أوباما مع مبارك أفضل من تجربة الأخير مع إدارة بوش التي شابها التوتر في الولاية الثانية للرئيس الأمريكي السابق.
في مذكراته، يروي أوباما أنه تحدث مع مبارك قبل أسبوع من اندلاع المظاهرات في القاهرة. يصف أوباما مبارك في الاتصال بأنه كان متجاوبًا ومتعاونًا عند الحديث عن إعادة إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودعوة الحكومة المصرية للحفاظ على الوحدة الوطنية بعد تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية في ليلة رأس السنة. وعندما سأله أوباما إذا ما كانت المظاهرات في تونس قد تمتد إلى القاهرة، أجاب مبارك أن "مصر ليست تونس" وأن أي مظاهرة ضد حكومته سوف تنتهي سريعًا.
أما في الرياض، فقد ظل الملك عبد الله مطمئنًا إلى أن صديقه في القاهرة باقٍ لسنوات، كحليف يمكن الاعتماد عليه في تحجيم الدور الإيراني المتصاعد ومن خلفه محور الممانعة بقنواته الإعلامية. وبالتالي كان رحيل مبارك عن الحكم صدمة للجار الخليجي، والسعودي تحديدًا. وبينما رحب أعضاء محور الممانعة على الفور برحيل مبارك على وقع الثورة الشعبية وأصدرت طهران ودمشق بيانات التهنئة محتفيةً بسقوط ما وصفه التلفزيون الحكومي السوري "نظام كامب ديفيد"، تحفظت الإمارات والسعودية وعبرتا عن غضبهما بما لحق بمبارك خلال اتصالاتٍ مع أعضاء إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
حتى الآن يبدو محور الممانعة أقرب إلى الحشود في الشوارع مقابل مواقف أكثر تحفظًا من محور الاعتدال الذي فقد للتو واحدًا من أهم أقطابه. ولكن عبارات مناهضة للأسد كتبها مراهقون على جدران مدينة درعا الجنوبية في 6 مارس/ آذار قبل أن يمر شهر على الإطاحة بمبارك، شكّلت مع تداعياتها نقطة تحوّل جديدة في إقليم يتغير.
بدأت الثورة في سوريا وبدأت معها فصول تفكك محور الممانعة. قطر التي دعمت من خلال قناة الجزيرة الثورتين في مصر وتونس، تحفظت لعدة أسابيع عن دعم الانتفاضة الشعبية ضد حكم بشار الأسد، ثم طالبت حليفها بإجراء إصلاحات ديمقراطية عاجلة. رفض الأسد وانتقلت الانتفاضة الشعبية إلى مواجهاتٍ مسلحة.
سريعًا تبدلت المحاور في المنطقة وخرجت قطر من محور الممانعة وانضمت إلى السعودية والإمارات في دعم المعارضة السورية المسلحة ضد قوات بشار الأسد. إيران وحزب الله وقفا إلى جانب نظام الأسد ودعماه بالمقاتلين. في هذه الأثناء كانت الانتفاضة الشعبية في ليبيا لإسقاط القذافي مستمرة بدعم قدمته قطر والسعودية والإمارات مع تسهيلات لوجستية قدمها المجلس العسكري الحاكم في مصر. أطلق حلف شمال الأطلنطي، ناتو، عملية عسكرية لإسقاط القذافي قررت إدارة أوباما أن تترك قيادتها لفرنسا وبريطانيا اللتين شكلتا تحالفًا عسكريًا ضمَّ أيضًا قطر والإمارات.
في تونس كانت قطر حاضرةً أيضًا من خلال دعم حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي. كما كانت داعمةً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ولجماعات المعارضة الإسلامية المسلحة في سوريا وليبيا. السعودية أيضًا دعمت جماعات المعارضة الإسلامية المسلحة في سوريا قبل أن يبدأ صدامها مع الإخوان.
موجة إخوانية التقطتها أذن الخليج سريعًا
في الفترة بين 2011 و2014 كانت خريطة التحالفات في المنطقة تتغير بوتيرة أسرع من أي وقتٍ آخر خلال تاريخ الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية. وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر كان بدايةً لتركيبةٍ جديدةٍ من المحاور في المنطقة. بعد أشهر قليلة من رئاسة محمد مرسي تدهورت علاقات مصر مع الإمارات ولاحقًا تدهورت مع السعودية، بعد أن أصبحت ترى في جماعة الإخوان المسلمين خطرًا سياسيًا عليها ونظامًا في طريقه إلى التحالف مع إيران التي رحبت بوصول الجماعة إلى الحكم واعتبرت دعمها جزءًا من وفاء قادة الثورة الإسلامية الإيرانية لحسن البنا وسيد قطب.
ولم يؤثر دعم مرسي الإعلامي والسياسي لجهود إسقاط بشار الأسد في أن يبادر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى زيارة الرئيس الجديد في القاهرة. زيارة تاريخية كللت عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
في مارس 2014 قررت السعودية قطع جميع العلاقات مع جماعة الإخوان وتصنيفها رسميًا كجماعة إرهابية. وعلى الرغم من أن الخطوة بدت دعمًا للقاهرة بعد الإطاحة بالجماعة من الحكم، لكن القرار عكس شكوك القيادة السياسية في الرياض في نوايا الجماعة تجاه المملكة واحتمالية دعمها لأي تحرك معارض داخل السعودية.
ما جرى في القاهرة بعد رحيل مبارك من تغيرات سياسية دراماتيكية أدت إلى وصول الإخوان إلى الحكم، ساهم في صعود قوى إقليمية جديدة أصبحت مؤثرة في صياغة الخريطة السياسية للمنطقة مثل الإمارات التي بات لديها سياسة خارجية هجومية ووجود عسكري في اليمن ودعم عسكري للقوات المتحالفة معها في شرق ليبيا، حتى باتت الفاعل الرئيسي في مواجهة الجماعات التي تدعمها قطر.
أيضًا أنتجت الأحداث التي تلت عام 2011 صورة أوضح للسياسة الخارجية القطرية التي دعمت بشكل مكثف حركات الإسلام السياسي في مصر وتونس وليبيا وسوريا وهو ما أدى إلى الصدام العنيف بين الدوحة من جهة والرياض وأبو ظبي والقاهرة والمنامة من جهة أخرى خلال الأزمة الخليجية.
أتاح خروج جماعة الإخوان من المشهد السياسي في مصر فرصة تكوين محور جديد في المنطقة يضم مصر والإمارات والسعودية في مقابل محور آخر يضم قطر وتركيا. قبل ذلك كانت قطر عضوًا فاعلًا في المنظومة الخليجية وشاركت بقوات ضمن عملية درع الجزيرة في البحرين لدعم النظام الحاكم ضد المعارضة هناك، ولكن الخلاف بين قطر من جانب والسعودية والإمارات والبحرين من الجانب الآخر حول الموقف مما جرى في مصر بعد الإطاحة بالإخوان، خلق شرخًا في الخليج العربي وإن ظلت معه قطر جزءًا من الحسابات الخليجية.
شاركت قطر بقوات برية وجوية في عملية عاصفة الحزم التي قادتها السعودية في اليمن ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين) المتحالفة مع إيران، بعد أن سيطرت على العاصمة صنعاء عام 2015، ولكن حدة الاستقطاب الخليجي ظلت تتزايد حتى صيف 2017 عندما قررت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع العلاقات مع قطر، التي انسحبت إثر ذلك من عاصفة الحزم وطلبت من تركيا إرسال قوات برية إلى أراضيها، وسعت إلى تقوية علاقاتها مع طهران والكويت ومسقط.
تجلت كذلك حدة الاستقطاب الخليجي في ليبيا، حيث حلفاء إسقاط القذافي أصبحوا خصومًا بعد مقتل الرجل الذي ترك انهيار نظامه فراغًا كاملًا. تصارعت الجماعات المسلحة التي تنتمي إلى الغرب الليبي والجماعات التي تنتمي قبليًا وعشائريًا للشرق الليبي من أجل ملء الفراغ الذي خلفه رحيل القذافي. اختارت قطر وتركيا دعم الغرب الذي هيمنت عليه جماعات إسلامية بينما اختارت مصر والإمارات دعم قوات شرق ليبيا.
القوى الدولية والإقليمية من خارج النظام الإقليمي العربي أصبحت أكثر حضورًا على الأرض من خلال الجنود أو الدعم العسكري لحلفائها. تركيا أصبحت موجودة على الأرض في سوريا وليبيا ثم من خلال قاعدة عسكرية في قطر بعد الأزمة الخليجية. إيران ظلت حاضرة عسكريًا على الأرض في سوريا والعراق من خلال فيلق القدس وقائده قاسم سليماني. أما روسيا فأصبحت لاعبًا رئيسيًا في سوريا من خلال سيطرتها على السماء ووجودها بأسطول جوي من المقاتلات والقاذفات الثقيلة داخل سوريا. ولاحقًا أصبح للولايات المتحدة وجود عسكري على الأرض من خلال قواعد وجنود ودعم لقوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا.
أربعة عواصم ومشهد جديد
ما حدث من تغيرات عميقة في الخريطة السياسية للشرق الأوسط أدى إلى أن تكون مشاكل الإقليم المشتعلة على رأس أولويات السياسة الخارجية المصرية التي ظلت لعقود منشغلة بإدارة ملف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أصبح مطلوبًا من مصر مواجهة الوجود التركي في ليبيا والمطالبات التركية في شرق المتوسط والاشتراك في مقاطعة قطر وتحجيم دورها في دعم جماعات الإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه عدم إعلان أي سياسة واضحة حول الصراع في سوريا من أجل الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، مصادر التسلح الرئيسية من أجل الاستعداد لأي مواجهة برية أو جوية في ليبيا أو بحرية في شرق المتوسط.
كما غيرت الأحداث العاصفة في المنطقة من طريقة الرياض في التعامل مع تحدياتها الخارجية. فالسعودية التي كانت تتميز بسياسة خارجية حذرة وكان أسلوبها هو "القيادة من الخلف"، أي دعم تحالفاتها بدون أن تتصدى لقيادتها، أصبحت أكثر جرأة وإقدامًا في قيادة تحالفاتها الإقليمية وتدخلاتها العسكرية كما حدث في البحرين واليمن، وذلك بسبب شعورها بالخطر من التمدد الإيراني في المنطقة، والأهم بسبب شعورها أن الولايات المتحدة قررت الانسحاب من المنطقة بعد عقود من وجودها العسكري المباشر ودعمها لحلفائها.
أما طهران التي رأت في الانتفاضات الشعبية في المنطقة فرصة للتمدد وتوسعة نفوذها في المنطقة خلال النصف الأول من العقد الأخير، تحول حضورها في سوريا والعراق واليمن إلى عبء عليها. فقد جرى استنزاف طهران في سوريا والعراق، كما تم استنزاف ذراعها في لبنان، وأصبحت تعاني ماليًا بعد وصول ترامب للبيت الأبيض وإلغائه للاتفاق النووي معها. حدث ذلك أيضًا مع تركيا التي اصطدمت مع إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي وزادت أعباء وجودها العسكري في ليبيا وشمال سوريا، ولم يعد لها في المنظومة العربية من حليف سوى قطر بعد أن كانت تتمتع بسياسة "صفر مشاكل" التي صاغها وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو.
جهود إيران في التمدد داخل المنطقة أدت إلى تغير في أولويات إسرائيل الأمنية، فبعد سنوات من التركيز على حركة حماس في غزة أو حزب الله في لبنان، بدأت إسرائيل في ممارسة دور نشط يستهدف الوجود الإيراني على الأرض السورية واستنزافه. كما قدمت إسرائيل نفسها باعتبارها القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على تحييد إيران، وهو ما سمح لها بعلاقات علنية مع البحرين والإمارات. استطاعت إسرائيل خلال التغيرات العنيفة التي تلت 2011 أن تستوعب صدمة هائلة بحجم سقوط مبارك من الحكم واحتمالات أن لا يحافظ نظام الحكم الجديد على معاهدة السلام معها. وخرجت من كل هذه الصدمات وهي على علاقة علنية جيدة مع المغرب والأردن والإمارات والبحرين وسلطنة عمان ومصر والسودان وجلسات لرسم الحدود البحرية مع لبنان، وتحضيرات لمفاوضات سلام مع سوريا.
أما تركيا التي كانت تحتفظ بعلاقات قوية مع بشار الأسد وبعلاقات متميزة مع مبارك وصلت إلى حد حضور الرئيس التركي السابق عبد الله غول آخر حفل تخرج للكلية الحربية إلى جانب مبارك عام 2010، فقد رحبت برحيل مبارك وبعد أشهر قدم الحزب الحاكم في تركيا، العدالة والتنمية، استشارته السياسية لجماعة الإخوان التي وجدت في تركيا حليفها الأهم بعد وصولها للحكم.
انخرطت تركيا سريعًا في الحرب السورية وأشرفت على تدريب الجيش السوري الحر، الذي أسسه ضباط منشقون عن الجيش النظامي السوري. وبعد سنوات من دعم فصائل المعارضة المسلحة وجدت تركيا نفسها في مأزق؛ فقد أدت الحرب إلى سيطرة الأكراد على مناطق واسعة من الشمال السوري وأعلنوا إدارة ذاتية للمناطق التي يسيطر عليها "مجلس سوريا الديمقراطية". أدى ذلك إلى عملية عسكرية أطلقتها تركيا عام 2016 وأسمتها درع الفرات للقتال ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وقوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية.
استقبلت تركيا نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، وقد وجدت أنقرة في هذا التدفق الهائل من اللاجئين فرصة لمعاقبة الاتحاد الأوروبي الذي رفض أكثر من مرة انضمامها إليه. فقررت فتح الباب أمام من يرغب من اللاجئين لعبور الحدود إلى أوروبا، التي وجدت نحو مليون لاجئ يتدفقون على أراضيها.
الإطاحة بالقذافي في ليبيا كانت فرصة جديدة كي تدعم تركيا الفصائل المسلحة التي تسيطر على الغرب الليبي، وهو ما أدى لاحقًا إلى أن يكون لتركيا وجود عسكري هناك لمواجهة القوات الليبية التي انطلقت من الشرق ودعمتها مصر والإمارات. لكن الإطاحة بالإخوان من الحكم في مصر أدى إلى صدام بين تركيا ومصر في ليبيا وشرق البحر المتوسط بسبب الرغبة التركية في أن يكون لها حصة في اكتشافات الغاز العملاقة التي يتقاسم أغلبها مصر واليونان وقبرص وإسرائيل.
أوباما والمأزق السوري
جاء القرار الأمريكي بعدم تصدر جهود الإطاحة بالقذافي تجسيدًا لسياسة أوباما الجديدة في المنطقة والتي اعتمد على الانسحاب منها عسكرياً وفك ارتباط الولايات المتحدة بمشاكلها تمهيدًا للانتقال إلى آسيا والتركيز على جهود تحجيم الصين. باستثناء مصر التي أجبرت تطوراتها أوباما على التفاعل معها بكثافة، لم يكن الرئيس الأمريكي راغبًا في التورط في تداعيات موجات الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت سوريا والبحرين والأردن والمغرب وليبيا. لاحقًا، أنتجت خطة أوباما بالانسحاب من المنطقة اتفاقًا مع إيران حول طموحاتها النووية كان مأمولًا منه تهدئة التوتر في الشرق الأوسط، قبل أن يلغيه ترامب لاحقًا.
مع قدوم إدارة أوباما التي قررت أن تنسحب من العراق، كانت دمشق أمام فرصة لإعادة العلاقات مع واشنطن. فخلال 2008 قرر الأسد إجراء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية قطر وتركيا، كما فتح خط اتصال مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وصل إلى حد حضوره احتفال يوم الباستيل، العيد الوطني الفرنسي، في يناير 2008.
ولكن بعد أقل من ثلاثة أعوام، واجه الأسد أكبر تحدٍ لنظام حكمه منذ وصل أبيه إلى الحكم في 1971؛ المظاهرات الشعبية التي بدأت في درعا في مارس 2011 انتقلت بسرعة إلى باقي المدن السورية، وخلال أشهر كانت البلاد على موعد مع الصدام المسلح بين الجيش السوري وبين القوات التي انشقت عنه أو الفصائل المعارضة التي قررت حمل السلاح. وكان على الرئيس الأمريكي أوباما أن يحدد موقفه من الأحداث في سوريا بعد أن كان تدخله رئيسيًا في الإطاحة بمبارك.
طالب أوباما بأن تتم الاستجابة إلى مطالب المتظاهرين السوريين في إقامة حياة ديمقراطية وفي إطلاق الحريات ورحيل بشار الأسد عن الحكم. ومع صعود مستوى العنف الذي وصل إلى قصف الغوطة بالأسلحة الكيميائية في أغسطس 2013، كان على أوباما أن يواجه خيار ضرب الأسد وقواته عسكريًا أو منحه مهلة أسبوع لتسليم كامل مخزونه من الأسلحة الكيميائية في مقابل عدم تنفيذ ضربة عسكرية ضده. اختار أوباما أن يمنح المهلة.
لم يتخذ أوباما موقفًا حازمًا من الأسد بسبب خوفه من تكرار تجربة التورط العسكري الأمريكي في العراق، وهو ما أدى إلى بقاء الأسد في الحكم بعد دعمٍ على الأرض من قبل مقاتلين تابعين للحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني ودعمٍ حاسم في الجو من قبل المقاتلات والقاذفات الروسية. الخطوة العسكرية الوحيدة التي أقدمت عليها إدارة أوباما كانت في إرسال قوات محدودة إلى شمال سوريا وتحديدًا في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد وذلك من أجل مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي تمدد بشكل كبير خلال الحرب الأهلية السورية ونجح في السيطرة على مساحات واسعة من المناطق السنية في سوريا والعراق.
تحوُّل الانتفاضة الشعبية ضد الأسد في سوريا إلى حرب أهلية دموية أدى إلى واحدة من أكبر من موجات النزوح في التاريخ الحديث. تركيا استقبلت نحو أربعة ملايين لاجئ فيما استقبلت أوروبا نحو مليون لاجئ سوري منهم حوالي 880 ألف لاجئ في ألمانيا وحدها. استفادت التيارات اليمينية والشعبوية في أوروبا من تدفق اللاجئين كي تزيد من قاعدتها الانتخابية. صعود اليمين في أوروبا أفاد اليمين الأمريكي الذي كان يبحث عن فرصة للانتقام من وصول أوباما إلى البيت الأبيض.
في عهدة اليمين
على الرغم من إحساس التيارات اليمينية أنها في لحظة صعود منذ منتصف العقد الماضي، فإن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016 كان مفاجئًا لها بقدر ما كان مفاجئًا للمؤسسة الحاكمة في واشنطن أو في العواصم الأوروبية. ومن المدهش أن القاهرة اختارت الرهان على ترامب مبكرًا خلال السباق الانتخابي في حين كانت كل استطلاعات الرأي تؤكد أن فرصه أمام هيلاري كلينتون ضعيفة للغاية.
مع مجيء إدارة ترامب ظلت الخطوط العريضة لسياسة الانسحاب من المنطقة دون تغيير يذكر. حاول الرئيس الجديد أكثر من مرة سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا لكنه واجه معارضةً من قادة البنتاجون الذين أصروا على أن بقاء القوات هناك ضروري من أجل الحفاظ على الحلفاء الأكراد.
على عكس أوباما، حرص ترامب على إقامة علاقات ودية للغاية مع زعماء المنطقة، باستثناء إيران التي قرر الانسحاب من الاتفاق النووي معها وفرض المزيد من العقوبات عليها. مصر التي كانت قد تعرضت لضغوط من إدارة أوباما بعد الإطاحة بالإخوان، جنت ثمار رهانها على ترامب وتمتعت بعلاقات جيدة جدًا مع واشنطن سمحت لها بالتعامل مع الملفات الأكثر إلحاحاً مثل مواجهة تركيا في ليبيا أو المتوسط أو إدارة الصراع الدبلوماسي مع إثيوبيا بسبب سد النهضة.
ثم جاء مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، والتي حاول ترامب في البداية أن يتجاهلها ثم حاول أن يخفف الضغط على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على الرغم من الضغوط التي تعرضت لها السعودية من قبل تركيا وقطر والاتحاد الأوروبي.
قرر ترامب استغلال حالة الفوضى والتخبط التي وجد عليها المنطقة التي كانت في حالة استقطاب حادة لأسباب عدة من أهمها فشل عمليات الانتقال الديمقراطي والصراع الإقليمي الذي أطلقه وصول جماعة الإخوان إلى الحكم ثم رحيلها العاصف عنه. نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في خطوة لم تجرؤ عليها أي إدارة أمريكية من قبل حفاظًا على علاقاتها بحلفائها العرب ودورها كراعية لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
طرح ترامب ورجاله تصورًا جديدًا لحل القضية الفلسطينية يقوم على تصفية كل ما يطالب به الفلسطينيون؛ القدس لإسرائيل والمستوطنات لإسرائيل ولا عودة لأي لاجئين أو إعادة للأراضي المحتلة بعد حرب 1967. أطلق ترامب على هذا التصور اسم "صفقة القرن" التي لن يحصل بمقتضاها الفلسطينيون سوى على بعض المنافع الاقتصادية في حال تنازلوا عن كل حقوقهم المشروعة.
كما أطاحت الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة في 2011 بعدد من الزعماء العرب؛ أطاحت كذلك تداعياتها بالقضية الفلسطينية التي لم تعد تشكل أولوية لا للشعوب التي انشغلت بالاضطرابات في بلادها ولا للزعماء الذين انشغلوا بمحاولات احتواء هذه الاضطرابات.
نتائج ذلك ظهرت في نجاح ترامب في نقل السفارة إلى القدس دون أن يصطدم بأي معارضة من حلفائه العرب ولاحقًا في قدرته على رعاية اتفاقات للتطبيع والعلاقات العلنية بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل. وقبل أشهر من رحيل إدارته عن الحكم تسربت معلومات عن خط اتصال بين إدارته وبين حكومة الأسد في دمشق من أجل احتمال استئناف مفاوضات للسلام مع إسرائيل.
حليف لا يعتمد عليه
هذه المحاور والأحلاف بكل تناقضاتها هي ابنة محاور وأحلاف عالم ما بعد تأسيس الدول القومية في مرحلة ما بعد الاستعمار، حين أدت الحرب العالمية الثانية وما جرى من معارك في شمال أفريقيا إلى أن تدرك الإدارات الأمريكية أن جزءًا هامًا من هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى سوف يكون من خلال الوجود في الشرق الأوسط لملء فراغ القوى الاستعمارية القديمة ومواجهة المد الشيوعي الذي يعني نفوذًا للاتحاد السوفيتي.
في أعقاب الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة في 2011 وجدت الولايات المتحدة نفسها في لحظة مناقضة للحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالقوى الصاعدة في العالم مثل روسيا أدركت أن الفراغ الذي قد ينشأ من الانسحاب الأمريكي من المنطقة قد يعني فرصًا لوجودٍ عسكري أو تحالفٍ مع قوى إقليمية، وهو ما فعلته عندما تدخلت لإنقاذ الأسد وأصبح لديها وجود عسكري جوي وبحري وأرضي في سوريا. استغلت روسيا أيضًا خوف السعودية من التهديدات الصاروخية الإيرانية وعقدت معها صفقة صواريخ إس 400 الدفاعية. كما استغلت روسيا تلكؤ الولايات المتحدة في تحديث سلاح الجو المصري وعقدت صفقات تسلح مع مصر. الأمر تكرر مع تركيا التي اشترت من روسيا منظومة إس 400 وهو ما أدى إلى توتر العلاقات مع واشنطن.
لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بانتشار عسكري مؤثر في البحرين وقطر وبوحدات عسكرية في شمال سوريا، وعلاقات تعاون هامة مع الإمارات ومصر والسعودية والعراق، وبالطبع تحالفٍ مع إسرائيل، وهو ما يجعلها القوى العظمى الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط، لكن ذلك لا يعني هيمنةً كاملة. فإيران وتركيا لديهما تصوراتٌ تتعارض مع التصور الأمريكي للمحاور في المنطقة. كما أن التحركات الأمريكية في المنطقة في السنوات التي تلت 2011 أدت إلى إدراكٌ الحلفاء التاريخيين مثل مصر والسعودية أنه لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتحديات الإقليمية التي تواجه الدولتين.
لكن المؤكد إن إدارة الرئيس الجديد جو بايدن تريد إحياء أحد منجزات إدارة أوباما الأهم في المنطقة وهي الاتفاق النووي مع إيران، وهو الأمر الذي قد يزعج الرياض مثلما أزعجها عندما تم توقيع الإتفاق أول مرة عام 2015. كما أنه من المرتقب أن تحاول إدارة بايدن إطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وربما تعمل على إعادة استئناف المسار التفاوضي بين سوريا وإسرائيل. وفيما يتعلق بمصر فإن إدارة بايدن قد تعيد العلاقة إلى لحظات توترها خلال ولاية أوباما الثانية في أعقاب الإطاحة بالإخوان من الحكم. هذه التطورات قد تعطل انسحاب واشنطن من المنطقة لسنواتٍ قادمة.
مشهد غير مكتمل
في اليوم الأول من عام 2011 كانت المنطقة منقسمة إلى محورين رئيسيين تحت عنوان عريض وهو: العلاقة مع إسرائيل وحزب الله وحماس. خلال السنوات التالية أصبحت المحاور الإقليمية منقسمة حول ملفات متفرقة مثل: العلاقة مع إيران وتحييد أذرعها الإقليمية، العلاقة مع تركيا، ودعم جماعات الإسلام السياسي.
خلال السنوات العشرة التالية انفجرت الحرب الأهلية في سوريا واستدعت صدامًا بين قوىً إقليمية، وأنتجت حروبًا بالوكالة ووجودًا عسكريا لروسيا والولايات المتحدة وميليشيات مسلحة من دولٍ عدة. كما انفجرت الحرب في ليبيا وتحولت إلى اقتتال أهلي بين الشرق والغرب، وحرباً بالوكالة من خلال دعم الاقتتال الأهلي من قبل أطرافٍ إقليمية عدة.
خاض العراق تجربته الدامية مع تنظيم داعش، ولأول مرة تعاونت الولايات المتحدة مع الحرس الثوري الإيراني وقاسم سليماني في قتال داعش، قبل أن تتغير الإدارة الأمريكية وتقرر قتل سليماني، وتفقد إيران أحد أهم قادتها المشرفين على أذرعها الإقليمية في لبنان واليمن والعراق وسوريا.
اقتربت منظومة مجلس التعاون الخليجي من التفكك إلى الأبد تحت وقع الأزمة بين قطر من جهة والسعودية والامارات والبحرين من جهة أخرى، ووقوف سلطنة عمان والكويت على الحياد لصالح قطر. أدت الأزمة إلى أن تكون إيران وتركيا أطرافا غير عربية في أزمة خليجية، ومن المستبعد خروجهما من البيت الخليجي في المستقبل القريب.
بعض الدول بالكاد نجت من الانهيار. لعل المثال الأبرز هو الأردن الذي واجه أزمة لاجئين هائلة بسبب الحرب الأهلية السورية، وواجه تحديات داخلية بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة وتراجع الدعم المالي من الخليج. وجاء الخطر الأكبر من خلال الضغوط الأمريكية كي يوافق على صفقة القرن ويغامر بغضب أغلبية الشعب الأردني المنحدرة من أصولٍ فلسطينية. رفضت القيادة السياسية الأردنية الموافقة على صفقة القرن كي تنقذ البلاد من خطر الانفجار.
وبعد عشر سنوات من الطوفان الكبير، لا تزال خريطة المنطقة في مرحلة التشكل. فالمحاور التي نشأت في أعقاب الإطاحة بالزعماء الذين هيمنوا على المشهد السياسي لعقود، عادت وتشكلت مرة أخرى استجابة لصعود قوىً جديدة وإزاحة أخرى من المشهد. ولا تزال المنطقة في انتظار معرفة شكل الصراع القادم بين القوى العظمى في العالم كي تحظى بمرحلة يقين لم تختبرها منذ الحرب العالمية الأولى.
قراءة ملف "تلك الأحداث" على هذا الرابط