تصوير حي مالك لـ المنصة
أحد أسواق بولاق الدكرور

أساطير التضخم: إعادة ترتيب القيم الاقتصادية

منشور الأحد 5 مايو 2024 - آخر تحديث الاثنين 6 مايو 2024

عادة ما نرى ارتفاع الأسعار كظاهرة سلبية يجب مواجهتها عبر سياسات تتحكم في الأسعار، من أول التسعيرة الجبرية قديمًا لرفع أسعار الفائدة حديثًا. ولكنَّ الاقتصاديين وصناع القرار يدركون أنَّ ارتفاع الأسعار الدائم جزءٌ أصيلٌ من السياسة الاقتصادية، فالقليل من ارتفاع الأسعار مفيد للنمو الاقتصادي لأنه يحفز الاستهلاك، مع ترسخ إدراك الجميع بأنَّ أسعار السلع ستزيد في المستقبل.

بالتالي، يساهم التضخم المنخفض في نمو في الاقتصاد وخلق فرص العمل. على الجانب الآخر، لو تخيلنا عالمًا تقل فيه الأسعار وتزيد فيه قيمة النقود/deflationary بشكل دائم، سيؤجل الجميع استهلاكهم قدر الإمكان، لأنَّ قيمة أموالهم ستزيد مع الوقت، ما سيؤدي في النهاية لشلل الأسواق.

لكن ماذا لو لم تقتصر الاستفادة على "القليل من التضخم"، وكان التضخم المرتفع أيضًا مربحًا، على الأقل لبعض فئات المجتمع؟

يستكمل هذا المقال ما ناقشناه في المقال السابق عن عجز السياسات التقليدية لصندوق النقد الدولي عن خفض التضخم باستخدام أسعار الفائدة، ويشرح كيف تستفيد نخب مالية من العجز عن كبح معدلات نمو الأسعار البالغة الارتفاع.

يتطرق المقال أيضًا لتأثير السياسات النقدية على خفض قيمة منتجاتنا وأصولنا وقوة عملنا في مصر بالنسبة للعالم الخارجي، مضفية بذلك قيمة على المال الرخيص في المراكز الرأسمالية الكبرى.

التربح من أزمات "الوفرة"

في الاقتصاد لا توجد سياسات جيدة أو سيئة في المطلق، فلكلِّ سياسة رابحون وخاسرون. عادة ما يخسر الذين يبيعون قوة عملهم في مقابل النقد، حتى لو زادت أجورهم بنسب تعادل التضخم (وهو ما لا يحدث عادة بشكل كامل)، لأنَّ عملية الزيادة تستغرق وقتًا، وخلال هذه الفترة تكون معدلات تضخم جديدة تولدت، واقتطعت من قيمة الأجر الجديد.

في المقابل، يؤدي التضخم الكبير لزيادة كبيرة في قيمة الأصول التي تعمل كمخزن للقيمة، مثل العقار والذهب والعملات الأجنبية المستقرة، ويستفيد أصحاب تلك الأصول جرّاء زيادة الطلب عليها في فترات التضخم المرتفع، للحفاظ على قيمة المدخرات.

وتوجد أيضًا فئة أخرى تستفيد من التضخم المرتفع؛ المُقرضون الدوليون. لكن قبل أن نتطرق لهذه الفئة ونفهم كيف تستفيد من سياقات التضخم، دعنا نناقش سريعًا طبيعة "الأزمات" في ظل النظام الرأسمالي العالمي.

تنشأ الأزمة في ظل الرأسمالية من الوفرة، على عكس أزمات ما قبل الرأسمالية التي كان سببها الندرة، مثل نقص المحاصيل في مواسم الحصاد السيئة. وذلك لأن "الرأسمالية" تعني ببساطة تهيئة الظروف لتراكم رأس المال بمعدلات كبيرة وسريعة ولا نهائية. ولأنَّ هذا التراكم ينتج وفرة كبيرة في رأس المال، تظل هذه الفوائض المالية في حالة بحث دائمة عن فرص للاستثمار المربح. وفي حالة فشلها تنخفض قيمة رأس المال، مثل أي سلعة ينخفض سعرها عندما يتجاوز المعروض منها الطلب.

السياسات المغذية للتضخم المرتفع ليست فقط خفضًا معممًا للقيمة لكنها أيضًا إعادة توزيع لها بين عوامل الإنتاج المختلفة

لا يقف رأس المال عاجزًا أمام هذا التهديد، ولكنه، كما يقول الأنثروبولوجي ديفيد هارفي، يتجنب انخفاض القيمة عبر خفض قيمة أشياء أخرى لكي يحولها لاستثمار مربح. مثلًا، يمكن لمشروع ربحيته منخفضة أن تزيد، من خلال خفض قيمة العمل والأرض ومدخلات الإنتاج.

بالنسبة لرأس المال "المأزوم"، فإنَّ قرارات البنوك المركزية بزيادة أسعار الفائدة لمواجهة التضخم خبر سعيد للغاية، فهو يوفر له واحدًا من الحلول التي تُجنبه الانخفاض في القيمة، وذلك عبر شراء أدوات دين ذات عائد "فائدة" مرتفع. لذلك رأينا في مصر تدفقات هائلة لرأس المال في صورة "أموال ساخنة" في الفترات التي تلت التضخم العالي/خفض قيمة العملة في مصر.

يقول هارفي إن بإمكان هذا النمط من المعاملات الائتمانية أن يخفف من مشاكل التراكم الزائد، وإنه يعمل جيدًا في سياقات غير متكافئة على المستوى الجغرافي، حيث فوائض رأس المال في منطقة واحدة يقابلها نقص في منطقة أخرى. ويقول في هذا الصدد:

"اللجوء إلى نظام الائتمان يجعل المناطق عرضة لتدفقات رأس المال المُضارب، التي يمكن أن تحفز أو تقوّض التطور الرأسمالي. بل ويمكن استخدامها، كما حدث في السنوات الأخيرة، لفرض تخفيضات همجية للقيمة في المناطق المعرضة للخطر [...].

وكما أنَّ الحرب هي استمرار للدبلوماسية بوسائل أخرى، فإن تدخل رأس المال التمويلي المدعوم بسلطة الدولة من الممكن أن يتحول في كثير من الأحيان إلى تراكم بوسائل أخرى.

ويشكل التحالف غير المقدس بين قوى الدولة والجوانب الجشعة لرأس المال التمويلي طليعة "الرأسمالية الجائرة"، المكرسة للاستيلاء على الأصول وخفض قيمتها، بدلًا من بنائها من خلال الاستثمارات الإنتاجية"(1).

يؤكد واقعية هذا التحليل مقال نشر في مجلة هارفرد بيزنس ريفيو عام 2017، يشير إلى نمو "رأس المال المالي العالمي أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقود الثلاثة الماضية، ويبلغ الآن ما يقرب من عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومع نمو رأس المال بشكل أكثر وفرة، انخفض سعره"، ليخلص إلى أنَّ "رأس مال كثيرًا جدًا سوف يطارد عددًا قليلاً جدًا من الأفكار الاستثمارية الجيدة لسنوات عديدة".

طفرة العقارات خير من الإنتاج الصناعي؟ 

تؤكد عدة مؤشرات على وجود رأسمال فائض في الشمال العالمي، على رأسها تقييم أسهم البورصة بأعلى من قيمتها "الحقيقية"، وهو ما تؤكده كل مؤشرات التقييم الحالية.

كذلك، شهدت أسعار الأصول ومنها العقارية نموًا بمعدلات أعلى بكثير من النمو الاقتصادي ومعدلات التضخم وزيادة الأجور. فقد زادت الأسعار الحقيقية للعقارات السكنية على مستوى العالم منذ عام 2000 حتى نهاية عام 2021 بأكثر من 80%، بعد استبعاد أثر التضخم، مقارنة بزيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال الفترة نفسها، التي اقتصرت على نسبة 36% (بعد استبعاد أثر التضخم والزيادة السكانية)، وزادت أيضًا أسعار العقارات بشكل أعلى من الدخول بكثير وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي.

في الولايات المتحدة على سبيل المثال، زاد مؤشر أسعار المستهلكين منذ 1963 بحوالي 900%، في حين زادت أسعار العقارات خلال الفترة بنفسها بنحو 2350%.

هذه الطفرات في أسعار الأصول، تعكس توجه رأس المال للاستثمار فيها كحل لمواجهة ضعف الإنتاج الصناعي، ويتجلى الأخير في "معدل استغلال القدرات الصناعية" الذي يقيس نسبة القدرات الصناعية العاملة والمعطلة، فكلما قلّت نسبة القدرة الصناعية المستغلة كان معناه أنه لا توجد فرص كبيرة مربحة لرأس المال في القطاع الصناعي.

التخفيض المتكرر لقيمة الجنيه هو عمليًا خفْض لقيمة منتجاتنا وأصولنا وقوة عملنا بالنسبة للعالم الخارجي

في الولايات المتحدة مثلًا، بلغ معدل استغلال القدرات الصناعية في فبراير/شباط الماضي 78.3%، وهو معدل يقل بمقدار 1.3% عن المتوسط من 1972 إلى 2023، أما المعدل في أوروبا فبلغ  79.1% في الربع الأول من 2024، فيما المتوسط من 1985 إلى 2024 هو 80.68%. حتى في الصين، التي هي مصنع العالم، يكثر الحديث الآن عن مشكلات القدرة الصناعية الفائضة/over-capacity.

صندوق النقد الدولي أشار في تقريره الأخير عن وضع الاقتصاد العالمي إلى أنَّ مؤشر توقعات الإنتاجية والربحية انخفض بنسبة تصل إلى 30%، وأنَّ الاستثمار على مستوى العالم انخفض بنحو 2.3% في ما يسميهم بـ"الاقتصادات المتقدمة"، ونقطتين مئويتين في ما يسميهم بـ"الأسواق الناشئة".

التضخم المصري وإعادة توزيع القيمة

في مصر شهدنا موجة من التضخم بالغ الارتفاع منذ 2022، بلغ ذروته في سبتمبر/أيلول الماضي عندما تجاوز المؤشر 40%، مدفوعًا بالأساس بانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار.

التخفيض المتكرر لقيمة الجنيه هو عمليًا خفض لقيمة منتجاتنا وأصولنا وقوة عملنا بالنسبة للعالم الخارجي. في عام 2015 كان متوسط الأجر المصري أكثر من 450 دولارًا، وأصبح في عام 2022 حوالي 220 دولارًا فقط.

والعقارات مثلًا، برغم الارتفاعات الكبيرة في أسعارها بالعملة المحلية، فإن أسعارها بالدولار انخفضت خلال سنوات التضخم، وما يضاعف من هذا الانخفاض هو أنَّ قيمة الدولار نفسها انخفضت، فالدولار الواحد في عام 2015 تساوي قوته الشرائية 1.31 دولار حاليًا. بالتالي فالعقار الذي كان ثمنه في مصر 100 ألف دولار في عام 2015 (نحو 780 ألف جنيه)، يفترض أن يصبح ثمنه اليوم 131 ألف دولار (6.33 ملايين جنيه). ولكن وفقًا لمؤشر عقار ماب، فإن العقار الذي كان ثمنه 780 ألف جنيه في عام 2015، لن يتخطى 3 ملايين جنيهات حاليًا (2).

التضخم أيضًا يفيد النمو عندما يكون هذا النمو مدفوعًا بالتطوير العقاري والإنشاء، فالتضخم العالي يزيد من الطلب على العقار كمخزن للقيمة وكحماية ضد انهيار قيمة العملة. فعلى سبيل المثال، تقول واحدة من الشركات الاستثمارية في المجال العقاري إنَّ التضخم العالي يعني أنَّ الاستثمار في العقار قرار جيد لأنه يزيد من الطلب على العقار.

ويقول مؤشر عقار ماب لشهر سبتمبر/أيلول 2023 في هذا الصدد "يبدو أن تدهور قيمة الجنيه المصري ووجود توقعات بتعويم العملة مرة أخرى دفع بالكثيرين لشراء العقارات لحفظ قيمة الأصول وحماية مدخراتهم من أي فقدان متوقع في قيمة العملة المحلية".

يعني هذا أنَّ السياسات المغذية للتضخم المرتفع ليست فقط خفضًا معممًا للقيمة، لكنها أيضًا إعادة توزيع للقيمة بين عوامل الإنتاج المختلفة، لأنها تزيد قيمة رأس المال المقوم بالعملة الصعبة. وفي نفس الوقت، يؤدي التضخم العالي إلى تخفيض قيمة عوامل الإنتاج الأخرى، مثل العمل والأرض والطاقة.. إلخ.

كيف يساهم الصندوق في صناعة التضخم؟

في عالم التمويل تُباع الأموال وتشترى، وتتحول من وسيط للتبادل إلى سلعة في حد ذاتها، وقيمة الأموال تلك تتحدد، مثل أي سلعة، وفقًا لندرتها، ومن ثَمَّ وفقًا لقدرتها على درِّ الأرباح. فبالرغم من فوائض رأس المال على المستوى العالمي، فإنَّ ندرة العملات العالمية في بعض المناطق الجغرافية تزيد من قيمتها ومن سعرها في تلك المناطق.

سعر المال في هذه الحالة هو "الفائدة" التي تمثل قدرة تلك الأموال على توليد الأرباح. وكلما كان هناك نقص كلما زاد سعر السلعة، أو سعر الفائدة، والقدرة على توليد الأرباح في حالة العملة الصعبة.

منذ الثمانينات، أصبح الهدف الرئيسي للبنوك المركزية استهداف التضخم عند معدلات منخفضة من خلال أدوات السياسة النقدية، على رأسها التشديد النقدي من خلال رفع سعر الفائدة.

زامن هذا التحول الثمانيناتي سردية "استقلالية البنك المركزي" عن الحكومة التنفيذية، فكان يُنظَر للحكومة التنفيذية كجهة تخضع لضغوط سياسية تجعلها دائمًا أميل لاستخدام البنوك المركزية لاتباع سياسات تضخمية لتمويل برامج ذات طابع شعبوي، مهملة بذلك التأثيرات طويلة المدى لسياساتها. لذا أصبح من المهم أن يتحول البنك المركزي لمؤسسة فنية مستقلة عن اعتبارات السياسة.

لكنَّ الزيادات الكبيرة في التضخم مؤخرًا، في ظل هيمنة صندوق النقد الدولي المعروف بأنَّ من أهدافه الرئيسية المعلنة السيطرة على التضخم واستقرار الأسعار وتعزيز استقلالية البنوك المركزية للسيطرة على الإنفاق الشعبوي، تلقي بالشك حول هذا الدور المزعوم للبنوك المركزية. وتحديدًا في بلدان الدخل المنخفض والمتوسط ولصندوق النقد الدولي ذاته، بعد أن تحولت، سواء بقصد أو بدون، للاعبين رئيسيين في خدمة رؤوس الأموال في أماكن فوائضها على حساب الغالبية في أماكن نقصانها.