Jon Tyson- آنسبلاش
جرافيتي للأم تيريزا

عن السياسة والثقافة المحلقتين فوق رؤوسنا

منشور الثلاثاء 28 فبراير 2023

خرج الطبيب مختار السيد من السجن في منتصف الستينيات، من ضمن الشيوعيين المفرج عنهم، ليعود بعد سنوات قليلة للمشاركة في تأسيس التنظيمات الشيوعية السرية الجديدة، وينتسب للحزب الشيوعي المصري. أسس مستشفى صغيرًا في حي إمبابة، وبدأ تقديم خدماته من علاج وجراحات لأهالي الحي، بمقابل ضئيل جدًا للقادرين على الدفع، ومجانًا للفقراء.

كان له جسد ضخم وشعر أحمر، وكان وجهه مبتسمًا دائمًا. اشتهر بين أهالي المنطقة الذين أحبوه واحترموه لأنه يعالج أبناءهم، وفي نهايات 1990 قرر الحزب الشيوعي المصري ترشيحه لمجلس الشعب. وكانت المرة الأولى التي أشارك فيها تطوعًا في معركة انتخابية. كنا مجموعة صغيرة تعمل في الدعاية والندوات يوميًا طيلة شهر تقريبًا، ومع إعلان النتيجة، وجدنا مرشحنا في ذيل قائمة الخاسرين.

كانت هزيمتي الأولى، في عمر 17 سنة، ولم أكن قادرًا على تصديق كيف "يفشل" الدكتور مختار بعد كل ذلك العمر والتضحيات. راودني يومها سؤال الفشل، لا أعتقد أنه راوده، فهل فشل لأنه خدم لسنوات طويلة أهالي حي فقير ولم ينتخبوه؟ وهل فشل لأنه لم يؤسس لشبكة واسعة من المستفيدين من خدماته تقترب تدريجيًا من أفكار اليسار؟ وهل كان يقدم تلك الخدمات كي ينتخبه الناس أو يؤمنون بأفكاره؟

***

في 11 فبراير/شباط الجاري، عشية أكبر مظاهرات في تاريخ مدريد للدفاع عن الخدمات الاجتماعية العامة، وبالذات قطاع الصحة، وُزعت جوائز "جويا" التي تمنحها الأكاديمية الإسبانية لفنون وعلوم السينما. وهو حفل شبيه بجوائز الأوسكار، حيث يتم الإعلان عن الفائزين بتصويت أعضاء الأكاديمية من بين المرشحين النهائيين في التخصصات المختلفة.

وقتها كانت عشر أسابيع مرت على إضراب فرق الرعاية الطبية الأولية في مدريد، في أكبر تظاهرة في تاريخ الأطباء الإسبان، احتجاجًا على تدهور أوضاع نظام التأمين الصحي المجاني، الذي كان سابقًا من بين الأفضل في أوروبا، وتخريبه التدريجي تمهيدًا لخصخصته، وللمطالبة بدعمه بميزانيات أكبر. تصورنا أن وضع النظام الصحي سيتحسن بعد موسم الموت الجماعي خلال الموجة الأولي من جائحة كورونا. لكن ما حدث بعد انحسار الجائحة كان العكس؛ تسارعت عملية تدميره التي يقودها اليمين، لدفع القادرين للتعاقد مع أنظمة تأمين صحية خاصة، لتكتفي الأغلبية، من غير القادرين، بنظام الرعاية الحكومي المتدهور.

لا تخلو حفلات توزيع الجوائز من المفارقات، أغلبها معتاد ومكرر، مثل حديث الفائز في جملته القصيرة بعد استلامه للجائزة عن أن "لكل مجتهد نصيب"، وسيصل المجتهدون حتمًا للنجاح مثله، مميزًا نفسه عن الآخرين من غير الفائزين، الذين بالضرورة لم يجتهدوا مثله، وواضعًا تعريفًا ضيقًا للنجاح، لا يتفق عليه الجميع، وهو أن تصعد للمنصة فائزًا بجائزة ما.

أو من يفعل العكس تمامًا، متباهيًا بأنه لم يدرس تخصصه أصلًا، وبأنه فاز بالحظ، محفزًا المستجدين في مجاله على تجنب الدراسة الأكاديمية فربما تلوث موهبتهم. أو تحية الغائبين عن الحفل، ممن صنعوا أفلامًا شديدة الرداءة، لكنها حققت إيرادات قياسية في شباك التذاكر، وبذلك أنقذوا السينما، وكأن إيرادات الأفلام توزع على عموم السينمائيين أو عموم الشعب، أو أن مشاهدة الأفلام الرديئة فعل مفيد ويندرج في سياق الفعل الثقافي. أو الموسيقيين الذين يمجدون عملهم في وضع الموسيقي التصويرية، فالبديل عنها هو الصمت الملعون.

شاهدتُ الحفل الممتد لما يقارب الساعات الأربعة، بينما ذهني مشتت بين القريب والبعيد، القريب متابعًا لأخبار إضراب الفرق الطبية في مدينتي الحالية مدريد وتحضيراتهم لمظاهرة اليوم التالي، والبعيد متابعًا أخبار إغاثة أهالي الشمال السوري والجنوب التركي بعد زلزال 6 فبراير، وبالذات لمعرفتي الشخصية بفنانين ومثقفين أوقفوا روتين حياتهم اليومية كي يشاركوا بأشكال مختلفة في عمليات الإغاثة والدعم للمنكوبين.

مع العودة المتقطعة للحفل، لسماع بعض كلمات الدعم المشهرة من بعض السينمائيين لنظام الرعاية الصحية، والموجهة لرئيس الوزراء وأعضاء حكومته، وسياسيين آخرين، يحتلون صفًا كاملًا من القاعة الكبيرة الفاخرة.

حانت لحظة الجائزة الكبري لأفضل فيلم. اقترنت تلك الجائزة العام الماضي ببعض النقد والسخرية، حين فاز بها صاحب إمبراطورية إعلامية، معروف باستغلاله للعاملين في ظروف عمل رديئة، والاستغناء عنهم لاحقًا، كمنتج لفيلم بنغمة يسارية عن رجل أعمال فاسد يشبهه. وحين صعد لاستلام الجائزة تحدث بركاكة عن أهمية دوره في إنتاج الثقافة والسينما والتلفزيون، فلولاهم لماتت الأمة، مطالبًا بالمزيد من الدعم الحكومي، من أموال دافعي الضرائب، لقطاع السينما.

اعتاد قطاع واسع من المثقفين، أن ينظروا للعمل الخدمي والتطوعي، المسمى أحيانًا بالـ"خيري" بريبة ونفور. على اعتبار أنه "تلصيم" للنظام المفترض إسقاطه، وحل مؤقت لمشاكل الناس

هذه المرة لم يطالب أي من الفائزين، أو رئيس الأكاديمية خلال كلمته، بدعم حكومي إضافي للثقافة، حرجًا من تراجع الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية. لكن المنتج الكبير الفائز هذه السنة، اختتم الحفل بكلمات شبيهة بما قاله زميله العام الماضي، رغم تلقيه الدعم والتمويل من كل الجهات الممكنة "في وقت كثر فيه الحديث عن بناء الوطن... (تصورنا أنه سيقول في الجملة التالية أن الوطن هو الشعب المحتاج للخدمات الأساسية والضرورية، لكنه لم يفعلها)... تكون الوطنية الحقيقية في أفضل صورها هي إنتاج الثقافة، ودعمها، والفخر بها".

وانتهى الحفل.

***

الصمت "الملعون" سينمائيًا، رغم أنه يحكي أحيانًا الكثير في الحياة الحقيقية والفن، مفروض في المناطق المنكوبة في سوريا وتركيا تحت الأنقاض. يتحول أحيانًا خارجها وفوقها إلى صمت ضروري ومقدس، فربما يتمكن عبره رجال ونساء الإغاثة من سماع الأصوات الخافتة لمن يقاومون انسحاب الحياة تدريجيًا من أجسادهم تحت تلك الأنقاض. ***

بالعودة لـ"هزيمتنا" في انتخابات الدكتور مختار السيد، النموذج المتكرر في كل التيارات السياسية وفي كل المجالات؛ لم أفهم وقتها أنه قدم خدماته كطبيب لأهالي الحي لمجرد معرفته بأنهم يحتاجونها، وربما أشعره تقديم الجهد والوقت بالسعادة والنجاح والرضا، نجاح متمثل في تخفيف بعض من آلام أشخاص آخرين. أما هو فاحتفظ يوم الهزيمة بابتسامته نفسها، وكأن الخاسر في الانتخابات شخص آخر.

***

اعتاد قطاع واسع من المثقفين، أغلبهم من العدميين وإن لم يدركوا أنهم كذلك، أن ينظروا للعمل الخدمي والتطوعي، المسمى أحيانًا بالـ"خيري" بريبة ونفور. ليس بطريقة المنتج السينمائي الذي فاز بالجائزة ويري ضمنيًا أن دعم الثقافة أهم من دعم الرعاية الصحية التي لم يذكرها أصلًا في كلمته، بل من موقع مغاير، موقع سلطة الثقافة التي ستغير العالم بأكمله، فيكون إنتاجها وتعاطيها مهمة أسمى من كل المهام الأخرى، وكأن الثقافة والسياسية طيور جميلة وهائلة، تحلق فوقنا، تظللنا، وترشدنا للطريق الصحيح، دون أن تلمس الأرض.

تلتقي مع ذلك النوع من المثقفين قطاعات من اليساريين، على اعتبار أن العمل الخدمي أو الإغاثي عبارة عن "تلصيم" للنظام المفترض إسقاطه، وحل مؤقت لمشاكل الناس التي لا تحلها الدولة. فبالتورط فيه نساهم في استمرارية تلك الدولة. وإن تورطنا في تلك الأعمال في لحظات استثنائية، سيكون غالبًا لعمل شبكة من المنتفعين بها، تحمل أفكارنا.

لابد أن النفور التقليدي من ذلك النوع الخدمي/الخيري له أيضًا مبرراته الأخرى. من بينها ربما كلمة "خيري" نفسها، بحملها لقيمة مطلقة صعبة التعريف، تضع العالم في ثنائية الخير والشر، وتكسي صانع الخير بملابس الملائكة، وتضع حول رأسه هالة من النور. ولابد أن أحد أسباب النفور هو دخول الإخوان بكثافة، منذ السبعينيات، في ذلك النشاط وتأسيسهم لشبكة واسعة من الخدمات الإخوانية/الدينية، وربط المستفيدين بهم بشكل نفعي. أو لاحقًا ربط "الخير" بنماذج من نوعية "صناع الحياة" للداعية عمرو خالد. ومن المؤكد أن أحد أسباب النفور هو الفساد المالي والروحي لبعض الناشطين، المندفعين لأنشطة الإغاثة والدعم والمساعدة في أوقات الأزمات والضرورة. فبعد وقت قصير، نكتشف أن بعضهم فسد ماليًا بحيث تحول التطوع إلى مهنة تحقق لهم حياة مريحة. أو فسدوا روحيًا، متصورين أن الناس ستموت دونهم، متباهين بما يقوموا به، فيحيطونه بالدعاية.

***

سنختلف بالضرورة في أي جدال عن دور كل من الموسيقي والصمت في الأفلام. لكن، من المؤكد أن أغلب السينمائيين والمسرحيين، الفائزين بالجوائز، ومن لم يفوزوا بها، ومن لم يسعوا إليها، يعرفون أن أحد أسس الدراما الكلاسيكية؛ التماهي/التوحد. أن يتوحد المتفرج مع البطل، فيري نفسه فيه، ويخوض معه رحلة التخلص من المعاناة، أو تحقيق هدف ما. وحين يتحقق الهدف، وبينما يتحقق، تحدث عملية أخرى؛ التطهر، فيخرج المتفرجون من قاعة العرض المسرحي أو السينمائي في حالة نفسية أفضل.

ورثت السينما ذلك المبدأ الأرسطي من المسرح، وطبقته التجارية منها في كل أنحاء العالم، رغم إثارته لخلافات بين المسرحيين ومنظري الدراما، وتلقيه للضربة الأهم من مسرح بريخت، النصف الأول من القرن العشرين، في رفضه للتماهي، والدعوة لدرجة من التغريب، والرؤية النقدية، التي تفصل بين المتفرج وما يراه.

لنترك التماهي، فهناك مفهوم أخر مرتبط بالفنون الأدائية والحياة الواقعية اليومية، في تقديري أهم من التماهي وأكثر واقعية وفائدة؛ "الإنباثي"، أو ما يمكن تسميته تجاوزًا، ولغياب الاتفاق على ترجمته، بـ"التماثل أو التقارب الوجداني"، أو لنقل إحساس الأشخاص بالأخرين، وقدرة بعضنا علي وضع أنفسهم في مكان من يمرون بأزمات أو آلام، وتأثرهم بها تلقائيًا.

هؤلاء ممن يثيرون سخرية البعض حين يبكون أمام مشهد سينمائي، أو أمام خبر قصير، أو حكاية مؤلمة يسمعونها من آخرين. هؤلاء هم غالبًا من يتورطون في إغاثة ومساعدة الآخرين، التي يراها البعض من موقع فوقي. وهم غالبًا، ولقدرتهم على وضع ذواتهم في مكان الآخرين، وفهم ظروفهم، لا يرون أن نجاحاتهم الشخصية، إن وجدت، دليلًا على عدالة العالم وقدرة الجميع على تحقيق نفس النجاح.

في أوقات الأزمات والطوارئ، أو أمام حالات الانهيار المجتمعي كتلك التي نعيشها في منطقتنا بعد ثورات وانتفاضات العقد الماضي، لا يتصور هؤلاء، إن كانوا مثقفين أو فنانين أو ناشطين سياسيين، أن عليهم التواجد في موقع أخر، أكثر رقيًا، لتطوير البشرية عقليًا، وكأنهم طيور جميلة تحمل الثقافة والسياسة وتنظر إلينا من عل، دون أن تلمس أرضنا. بل يختارون عادة أن يلمسوا الأرض، ولو مؤقتًا، عند الضرورة، دون أن يروجوا الدعاية لفعل التلامس مع الأرض.

***

قلت إن عمل "الخير" يكسي صانعه بملابس الملائكة، ويضع حول رأسه هالة من النور، وهو ما حدث حرفيًا مع "الأم تيريزا الأوروبية في كالكوتا"، التي نصبها الفاتيكان قديسة بعد موتها،  رغم أنها لم تصنع الخير، بل ألقت ببعض الحسنات المشكوك في أمرها للفقراء، ومنعت نساء مغتصبات من الإجهاض، ومن تلقي رعاية صحية بجودة مقبولة في مؤسساتها، بينما كانت تسافر في "البيزنيس كلاس" لتلقي العلاج في أفضل المستشفيات الأمريكية عند أي أزمة صحية تمر بها. بالإضافة لكل ما أثير عنها وعن مؤسساتها في دراسات وتحقيقات استقصائية جادة من عنصرية وفساد وأهداف تبشيرية، وتعميد الهندوس مسيحيًا بينما هم على فراش الموت، وفي السر، كي ينالوا الحياة الأبدية بالمنطق المسيحي، بعد حياة العذاب التي كانت تراها كبركة إلهية.

وغياب طيور الثقافة في هذه الحالة كارثي، فبفضل ذلك الغياب ستظل الأم تيريزا قديسة بالنسبة للملايين، بينما يتذكر قليلون الدكتور والسياسي مختار السيد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.