منذ سنوات، شاهدت تسجيلًا تليفزيونيًا للقاء للفنان محمد نوح في جامعة مصرية مع الطلبة، وهو يقول بفخر "مصر البلد الوحيدة اللي في علم باسمها ايجيبتولوجي، عمركم سمعتوا عن سعودولوجي أو كويتولوجي"، وأذكر أنني اندهشت لسخريته من بلدان خليجية وكذلك من فكرة القومية المصرية التي يطرحها نوح.
بعد هزيمة 1967 وسقوط حلم القومية العربية في مصر الذي اكتمل بوفاة جمال عبد الناصر، وتحول السادات للرأسمالية بعد حرب 1973، كان المجتمع يبحث عن هوية وانتماء جديدين، وانقسم بين يمين يمزج الهويتين الإسلامية والمصرية، يظهر فيه الرئيس المؤمن بأخلاق القرية، ويسار تمتزج فيه قومية عربية بأطياف ناصرية واشتراكية وشيوعية، وشعب حائر بين ما تلقاه من نظام عبد الناصر وما يقوله نظام أنور السادات، يبحث عن العدالة الاجتماعية أحيانًا والحل الفردي أحايين أخرى.
انعكس كل ما سبق على المشهد الغنائي في مصر، فسقوط القومية العربية اهتز معه عرش مغنيها الأول عبد الحليم حافظ، وحقق أحمد عدوية نجاحًا ساحقًا بـ"السح الدح امبو" في سوق الاسطوانات ثم سوق الكاسيت لاحقًا، ويصدم الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام المجتمع الثقافي والشعبي بـ"الحمد لله خبطنا" الساخرة من الهزيمة، ويطلق نوح نداء "مدد شدي حيلك يا بلد" الرافض للهزيمة.
وينتشر ثلاثة مغنيين يعبرون عن ثلاثة تيارات اجتماعية وسياسية جديدة، نوح "اليمين الساداتي" وإمام "اليسار الثوري" وعدوية "الليبرالية الشعبية".
لم نجن سوى الهزيمة
أول ما نلاحظه في الاختيارات الثلاثة اختلافها عن الصورة السابقة للمغني، العاطفي الحالم لحبيبته ولوطنه العربي، المرتدي للبدلة الكاملة، الأنيق اللطيف الرصين بشعره الناعم، يغني على مسرح سينما ريفولي أو قصر النيل، فنشاهد عدوية صاحب الشعر المجعد والجلباب أو القمصان المشجرة والبدلات ذات الألوان الصاخبة، والشيخ إمام بالجلباب البسيط أغلب الوقت وغطاء الرأس الكشميري والنظارة السوداء، ونوح بقمصانه مفتوحة الصدر وسلسلته و"كرشه" وصلعته، لا توجد ملامح حالمة ولا أصوات ناعمة، فلم نر من ورائها إلا الهزيمة.
اختلف شكل تعامل الدولة ومؤسساتها مع التجارب الثلاثة، فبعد فشل محاولة استمالتها أو احتوائها للشيخ إمام ببرنامج في إذاعة صوت العرب، كان مصيره الاعتقال مع رفيقه نجم حتى وفاة عبد الناصر، ومع تصاعد الحالة الثورية الطلابية في الجامعة الذي ترافق مع انفتاح سياسي ساداتي نسبي، دخل إمام مع نجم للجامعة لجمهور الطلبة المتمردين وظلا ممنوعين من وسائل الإعلام وشرائط الكاسيت الرسمية، ومُطاردين بين هروب واعتقال، وبقيت وسيلة الانتشار هي الجلسات المباشرة وشرائط الكاسيت التي يسجلها المعجبون والهواة.
أمّا عدوية البعيد عن السياسة فكانت لديه حرية الغناء في الملاهي الليلية والحفلات الخاصة، لكن على الصعيد الرسمي والإعلامي كان رمزًا لـ"الغناء الهابط المفسد للذوق العام"، لذلك كان ممنوعًا في الإذاعة والتليفزيون، مرغوبًا في السينما والكاسيت.
بينما كان نوح يحظى برعاية ساداتية مباشرة، فيطلب منه الرئيسُ الغناء في سيناء، ويغني في استاد القاهرة، وتأييدًا لاتفاقية السلام، لكنه عندما أراد الالتحاق بمعهد الموسيقى لدراستها أكاديميًا، وحصوله على موافقة وزير الثقافة حينئذٍ يوسف السباعي، فإن عميدة المعهد سمحة الخولي رفضت انضمامه بحجة كبر سنه، وهو ما دفعه للسفر إلى أمريكا لدراسة التأليف والتوزيع الموسيقي، وربما كان موقف الخولي سببه ارتباط اسم نوح بالملاهي الليلية التي كان يغني فيها، وكان جمهورها يصر على سماع مدد.
"حبة فوق وحبة تحت"
بتأمل كلمات وألحان أغاني ثلاثي السبعينيات نستطيع ملاحظة اختلاف رؤى اليمين واليسار الفنية في تلك الفترة، فمشروع الشيخ إمام اعتمد في أغلبه على أشعار أحمد فؤاد نجم، ومعه بالطبع شعراء آخرين مثل فؤاد قاعود وزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب الدين وغيرهم، وهو مشروع ثوري تحريضي يهدف لتغيير الأوضاع القائمة وتثوير الأغلبية الساحقة المنسحقة.
ونلاحظ استخدامه لمفردات مفعمة بالسخرية والهجاء مثل "سلاطين الفول والزيت" ومقاومة السلطات الظالمة والبحث عن الحرية كأغنية "الممنوعات"، ويأتي الشكل الموسيقي ملائمًا لتلك الأفكار، فإمام مغني تربى على طرب المشايخ والموشحات، واعتمد في ألحانه على الجمع بين تطوير الموسيقى بجعلها تعبيرية مع عدم التخلي عن التطريب والمقامات الشرقية الصميمة، والشكل الموسيقى بسيط جدًا، مغني وعود يصاحبهما أحيانًا عازف إيقاع.
ولم تمنح المطاردةُ الأمنية وانعدام الموارد المالية الفرصةَ لوجود شكل موسيقي أكثر ثراء لأغاني الشيخ إمام؛ لتظهر بأشكال موسيقية متنوعة ومغنيين مختلفين، وهو ما حدث بعد وفاته وفك الحظر ولو جزئيًا عن أغانيه.
وفي "شيد قصورك" مثلًا نلاحظ مزج التعبير والتطريب، فتبدأ الأغنية بجملة تعبيرية من مقام نهاوند وصولًا لـ"والسجن مطرح الجنينة" ثم يصعد إمام في السلم الموسيقي لكنه يتحول لمقام شرقي به شجن وهو بياتي مع جملة "واطلق كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا"، لأنه أكثر تعبيرًا عن القهر ومقاومته. غناء من قلب الشعب وتاريخه، فإمام هو امتداد لغناء المشايخ، المدرسة التي تخرج فيها شيخ كفيف آخر هو سيد مكاوي.
على الجانب الآخر كان محمد نوح محبًا ومتأثرًا بتجربة سيد درويش، لكن ما أخذه منها كان التعبير والتطوير، فهو صاحب أداء يصعب وصفه بالتطريبي، لكنه معبر ربما لدرجة الهتاف أو الصراخ، وكانت أغلب ألحانه بعيدة عن المقامات شديدة التطريب ذات الربع تون، وتعتمد على إمكانية توزيعها بشكل هارموني متناغم على الطريقة الغربية.
ونلاحظ أن تنفيذ أغانيه مرتبط بفكرة "الباند" الغربي، المكون من الكيبورد والبيز والليد جيتار والدرامز وآلات النفخ النحاسية، وهو الشكل الغربي الذي اختارته فرق غنائية عدّة مثل الجيتس وطيبة والمصريين، في رحلة البحث عن هوية متطورة، وجعلها تستخدم أشكالًا موسيقية مثل الروك والفانك والديسكو، وهو ما اعتبره نوح التطور المصري للغناء المرتبط بالاتصال بالغرب وليس بالمنطقة العربية.
أما كلمات محمد نوح وفرقته "النهار"، فهي تدعو للتفاؤل والحب والإيمان حتى في اللحظات الصعبة "إن كان في أرضك مات شهيد في ألف غيره بيتولد"، و"الله حي بكرة جاي راكب مُهرة جايب مهره"، "الصبر طيب اصبر يا صاحبي ده فرجه قريب".
فيما كان عدوية غير مقيد بيمين ويسار، ظلّ "حبة فوق وحبة تحت"، يمنحك حزنًا بمواويل من مقام الصبا مغنيًا "يا قلبي مين عذبك خلاك بتتألم اصبر على بلوتك يجيلك يوم وتتعلم"، أو بهجة "والله ولعب الهوى واحنا قاعدين سوا"، أو عبثية غامضة "كركشنجي دبح كبشه"، معبرًا عن حالات شعبية وإنسانية ينتج أغلبها مبدعون من أبناء ثقافة الشارع والحارة، لا علاقة لهم بأجواء السياسة والثقافة "الرفيعة" وصراعات الهوية الحضارية.
وجاء الشكل الموسيقي لعدوية امتدادًا لتطور الغناء الشعبي في مصر، صوت تطريبي متمكن، مقامات شرقية صميمة وقدرة على غناء الموال، إيقاعات شرقية مثل المقسوم والملفوف والسماعي وأيوب، وفرقة موسيقية بها الوتريات والناي والأكورديون والطبلة والرق، أُضيف لها الترومبيت الذي طُوع لأداء النغمات الشرقية.
محطات ليست أخيرة
بعد مرور نحو 50 سنة على التجارب الثلاث، لا تزال أغاني الشيخ إمام ممنوعة في الإعلام الرسمي والخاص، باستثناء الفترة من يناير 2011 ليونيو 2013، لكنه لا يزال حاضرًا على مواقع الإنترنت والمنصات بأغانيه التي تعبر عن قطاعات ثورية ومتمردة تعاني في العالم العربي كله من أنظمة ديكتاتورية فاقت ما سبقها، وأعاد الكثيرون النظر في تجربة إمام التلحينية والموسيقية بعيدًا عن الجانب السياسي والثوري لأغانيه.
وانتقل عدوية من خانة مفسد الذوق العام والمغني الهابط، لرمز من رموز زمن الغناء الشعبي الجميل، وتذاع أغانيه في الإعلام الخاص، وأعاد المثقفون اكتشافه كصوت جميل ومشروع غنائي معبر عن القاعدة الشعبية المصرية وعن عصر كامل بتناقضاته التي لا تخلو من جمال.
وظلت مدد أكثر ما تعرفه الأجيال الجديدة عن نوح، الذي أعتقد أن لديه أعمالًا أخرى تحتاج لإعادة اكتشاف خاصة كمؤلف موسيقي، وأعماله "إسكندرية كمان وكمان" و"المهاجر" ليوسف شاهين، ومسرحية "انقلاب" لصلاح جاهين وجلال الشرقاوي، وألبوميه "الصبر طيب" و "لا تنسانا".
ظلّ سؤال الهوية قائمًا في مصر خلال الـ 100 عام الماضية، واختلفت إجاباته طوال الوقت، ولا توجد إجابة واحدة قاطعة أو صحيحة كما يظن البعض، فالهوية متغيرة وغير محددة، سنظل نبحث عنها من خلال الفن والثقافة والسياسة، ولا ضير في ذلك ما دمنا نتقبل الخلاف والاختلاف باعتبارهما تعبيرًا عن تنوع وتعددية لا تمثيلًا لصراع أو إقصاء.