لفظته القاهرة في أعقاب ثورة جياع لم تكتمل، واحتضنته قنا أربعين عامًا، وطوال تلك المدة لم يكف عن سرد ماضيه ثريًا ومركبًا، ثم يبهت وجهه وراء حزن عميق كلما تذكر كم كان وحده منذ يناير/ كانون الثاني 1977، عندما أُبعد إلى مدينة قنا، ذلك السفر الذي سماه "نفيًا".
عباس دياب (1928-2018)، هو الاسم المعروف و"الحركي" لذلك القاهري الغامض، الذي يعود ميلاده كما هو مدون على بطاقته الشخصية إلى 1933 بمنطقة عين شمس، لكن روايات أصدقائه تقول إنه ولد عام 1928 بمنطقة الزاوية الحمرا. وبعدها غيَّر محل إقامته عدة مرات مثلما كان يفعل الشيوعيون الذين يعملون "تحت الأرض".
نشأ عباس في أسرة ميسورة الحال، لأب يمتلك مصنع نسيج صغير، كان كافيًا لتحصين الأسرة من الفقر الذي ضرب أكثر العمال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولأن جده لأبيه عمل موظفًا في قصر الخديوي عباس حلمي الثاني وكان يحبه، أطلق اسمه على الحفيد.
حصل على الابتدائية، واكتفى بها، ليعمل في صناعة النسيج وهو لم يكمل 18 سنة، وهناك شارك في سلسلة من الإضرابات العمالية بشبرا الخيمة، وخلال تلك الهبَّات، قرأ بنهم المنشورات الشيوعية التي وزعت على العمال، وانتقل منها ليقرأ ماركس وأنجلز وتروتسكي، والأدب العربي والمترجَم، ما سيظل عالقًا في ذهنه مدى العمر.
الأعوام التي قضاها بعيدًا عن العاصمة، منحته طمأنينة تليق بسن الثمانين، لكنها لم تكبح حماس رجل حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) في خلية شبرا الخيمة، وأحد مؤسسي الحركة في الأربعينيات عندما كان عمره لا يتعدى 17 سنة، فكان يقف في تظاهرات يناير 2011 بقنا، يغالب انحناءة يسيرة في ظهره، وكأنه في إحدى التظاهرات المناهضة لإعدام خميس والبقري، أو تظاهرات التضامن مع عمال شبرا الخيمة في الأربعينيات، وفي كل الحالات كان يعرف كيف ينجو من قوات الأمن إذا شعر بالخطر.
في بيت فسيح، يتوسط مساحة واسعة من الأرض المليئة بالحشائش، التقيت وافي نصر، مهندس زراعي في الستين من العمر، كان هو الرابط بين عباس وجيل الشباب الذي سيحمل هم الفقراء، ويحلم بالتغيير في 2005، وينتشر في ساحات قنا في ثورة 25 يناير.
مع نهاية الثمانينيات، بدأت العلاقة تقوى بين عباس، ذي الأفكار الشيوعية الراديكالية، ووافي، الشاب آنذاك، الذي ينتمي لأحلام جيله. وفي قصر ثقافة قنا، دارت نقاشات طويلة، عن الأفكار ما بعد ماركس، وعن جيل الأربعينيات، والتحولات التي تمر بالمجتمع، وعن الفكر اليساري، الذي يرى أنه تأسس على يد إبراهيم فتحي في الخمسينيات.
يحكي نصر، أن قصر الثقافة كان بيئة مناسبة لتلاقي أكثر المثقفين في قنا على اختلاف توجهاتهم، منهم المناضل العمالي فتح الله محروس، ومحمد نصر ياسين، مدير قصر الثقافة الذي اشتهر بدور الشيخ فاضل في فيلم الطوق والأسورة، وغيرهم... كان عباس في تلك الفترة بعيدًا عن الحركات التنظيمية، وكان يعتبر أن الثورة القادمة هي ثورة وعي.
أسامة، أحد أصدقاء عباس، شاب يقترب من الأربعين، اصطحبني في جولة من ميدان الساعة بوسط مدينة قنا، حتى شارع الزبيدي، حيث سكنَ عضو حدتو. يقع شارع الزبيدي خلف مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي، ويشبه المناطق القريبة من السيدة أو الحسين، حيث تتمازج روائح الطعام، مع روائح أعشاب العطارة، وكلما توغلنا صار أكثر تكدسًا بالأضرحة وأقل زحامًا، إلى أن وصلنا إلى مقام يسمى الفقيري تظله شجرة تمر هندي. وقتها أشار أسامة إلى شقة في الدور الثاني لعمارة قديمة "هناك سكن عم عباس لمدة 25 سنة". ولم يكن من الجيد التوغل أكثر لأسباب أمنية.
"أرواح" عباس
في التسعينيات كانت تلك المنطقة خالية إلا من أصوات حلقات الذكر والحضرات، لم يكن سوى المقابر وأضرحة الأولياء، وما بعدها كان منطقة زراعية. يقول أسامة "ارتبط عم عباس بضريح الفقيري، ولكنه كان يحفظ حكايات كل الأضرحة في المنطقة، ويمر صباحًا على أكثرها، كأنه يُلقي عليها تحيته الصباحية، حتى إذا بلغ مقام عبد الرحيم القناوي يقف مليًا ثم يذهب كالمستأذن، ومن هنا يبدأ توزيع الأرواح". سألت أسامة ما هذه الأرواح؟ فأجاب "الحلوى الصغيرة، البونبون، كان يسميها أرواح".
في منتصف الشارع التقيت شاذلي، وهو شاب قوي البنية، لا يظهر عليه أثر إصابتين لحقتا به خلال مشاركته في ثورة يناير 2011، سألته عن "الأرواح" التي يوزعها عباس، رد مبتسمًا "مع أن اللفظة مستخدمة، لكن هذا لا ينفي أن معجم عم عباس يحتفظ بمصطلحات قديمة، يشعرك أنك تتحدث مع أحد شخصيات أفلام الريحاني مثلًا".
لا يذكر شاذلي متى تعرف إلى عباس، ربما في منتصف التسعينيات عندما أتى الأخير إلى المنطقة، حينئذ كان عباس الرجل الأكثر أناقة في قنا، يحتفظ بشعره الطويل، مع نظارة شمس معلقة بسلسلة، فيبدو كنجم هوليوودي.
يحكي شاذلي "عرفت عم عباس على مراحل في بداية سكنه بالشارع، لكن في 2005 بدأت التعرف على جوانب أخرى من حياته خلال الندوات التي كان يحكي فيها عن ذكرياته مع حدتو ونشاطه العمالي، وتاريخه مع الاعتقال في الستينيات".
يتابع "في 2011 توطدت العلاقة أكثر، وأصبح أبًا روحيًا لأولئك الشباب الحالمين بالتغيير، وكنت واحدًا منهم، وعندما قُبض عليّ خلال إحدى التظاهرات، كان يمر يوميًا على أسرتي يطمئنهم أنه تواصل معي وسأعود قريبًا، ولأنه كان يبدو شخصًا "مهمًا" وتستعين به المحافظة لتنفيذ المهمات العاجلة، فصدّقته الأسرة واطمأنت والدتي".
في دكان صغير بشارع الزبيدي، التقيت الحاج مراد، وهو رجل في منتصف الستينات، كان جارًا لعباس، ويعتبر نفسه صديقه الأقرب "بس مكانش يحكي معايا في السياسة، عشان أنا كنت بحب عبد الناصر، وهو كان دايمًا يشتمه". بدأ الحاج مراد يستدعي ذكرياته غير المرتبة مع عباس، بينما تلمع عيناه ويضحك كثيرًا مع كل موقف يتذكره "كان ابن نكتة.. وكل شوية يغمى عليه أنقله المستشفى، ولما يفوق يشتم الدكاترة، يقولهم ينعل أبوكو ولاد كلب.. هو أنا هافضل رايح جاي عليكم كتير، وهم يضحكوا.. كانوا بيحبوه".
كان عباس يعاني من مشكلة مزمنة في التنفس، وألم دائم في البطن بسبب إصابة قديمة أثناء اعتقاله في الستينيات، لازمته تلك الآلام حتى وفاته، ومع ذلك لم يكن من السهل أن يقبل أن يعينه أحد "كانت نفسه عزيزة، ميحبش يبان إنه ضعيف أو محتاج لحد" يحكي مراد.
عاش عباس في آخر شارع الزبيدي في منتصف التسعينيات، وهي المرة الأولى التي يغير فيها إقامته منذ مجيئه إلى قنا بعد انتفاضة الخبز في يناير 1977، في ذلك الوقت كان عباس محاسبًا في إحدى شركات المقاولات بالقاهرة، وبحلول يوم 21 يناير أحكمت قوات الجيش قبضتها على الشارع، أما قوات الأمن فكانت تلاحق الشيوعيين.
في غرفة قديمة ذات إضاءة خافتة، تكتسي جدرانها بصور بارعة للمرماح والتحطيب، كأنها جزء من معرض فني، التقيت محمود هواري، وهو مصور في الثلاثين من عمره. يحكي أن حراك يناير كان الرابط بين رجل في الثمانين وشاب في بداية العشرين من العمر، أجاد هواري تنظيم التحركات والانتقال من الميادين الرئيسية إلى الشوارع الفرعية، ورسم الجرافيتي، لكن لم تكن لديه خبرة المناضل القديم "كنا ننظر إلى الثورة بمثالية مفرطة، لكن عم عباس كان يرى في الحِراك نفسه أشياء لا نراها".
يحكي أنه في بداية التظاهرات كان من الممكن أن تنتهي الثورة في قنا تمامًا، إذ كان عددنا محدودًا جدا، ولجأنا إلى أحد الشوارع الفرعية، وهناك حاصرنا الأمن، لولا هتاف إحدى السيدات الذي أعادنا مجددًا للتجمع، وسط شتائم مقذعة نالتها من الأمن.
الثورة في قنا
كان عباس، يحب أن يعيد حكاية الثورة إلى 2005، معتبرًا أنه العام الذي كان فارقًا في الحياة السياسية، بسبب الاستفتاء، وظهور وجوه جديدة في الانتخابات الرئاسية، والاعتصامات العمالية، ونشاط التدوين، وهي السنة نفسها التي تعرف فيها على كثير من الشباب الذين حركوا فيما بعد أول تظاهرات 25 يناير بقنا.
مهاب القاضي، أحد المدونين القلائل في الصعيد قبل الثورة، يحكي "كنت طالبًا في كلية الصيدلة عندما عرفت عباس، وتوطدت العلاقة أكثر مع بداية ثورة يناير". ويضيف "في تلك الأثناء كان عدد المتظاهرين يتراوح بين 70 إلى 100، ما جعل الأمر لا يبدو مقلقًا، لكن بعد تزايد الأعداد بدأ كبار العائلات يتصدون لذويهم من الثوار وكنا نرى أن هذا خطرًا يهدد استمرار التظاهرات بقنا، لكن عباس كان يرى أن القبلية يمكن أن تحمي التظاهرات إذا أُحسن استغلالها".
ظل عباس دائم التوجيه للشباب، طوال أيام التظاهرات، ينصحهم أن يكونوا دائمًا بين الجماهير، وفي الشارع، وبين الطلبة والعمال والفلاحين، كان يقول "إحنا معركتنا تنوير، بس إحنا بنستعجل ومش بنحسن الظن بالشارع"، يحكي أحمد بريري، محامٍ وأحد أصدقاء عباس.
في سجن الواحات
بعد 2013، بدأ الإعياء يلاحق عباس، وتضاءلت فرص اللقاء بأصدقائه، في تلك الأثناء غاب عن قنا، لم يعرف أحد إلى أين ذهب، لكنهم عرفوا فيما بعد أنه سافر في رحلة استشفاء طويلة.
كان عم عباس يشتكي من مشكلات في التنفس، بسبب الإفراط في التدخين، ما كان يؤدي به أحيانا إلى الإغماء. أما إصابة البطن المزمنة، فلحقت به خلال سجنه في الواحات بين 1959 إلى 1965، و"كان سجن الواحات هو العقاب الثاني الذي تلقاه بسبب نشاطه السياسي، المرة الأولى كانت عام 1953، وهناك قضى 3 سنوات، والثانية كانت في تلك السنة التي قبض فيها على مجموعة كبيرة من المثقفين والسياسيين، بهدف حل الحزب الشيوعي"، يحكي صديقه باسم ياسين.
أمضى عباس أشهرًا قليلة في سجن الواحات، هناك انضم إليهم شاب أسمر لا يتجاوز عمره 17 سنة، وبعد فترة أصبح هذا الصوت القادم من النوبة هو المعزي في الزنزانة. سرعان ما ظهرت بوادر فنان كبير اسمه محمد حمام، الذي كان يخجل أن يُشاهد بينما يغني، فاقترح عليه عباس أن يغطي وجهه أثناء الغناء، وهذا ما حدث.
يحكي عم مراد أن زوار الفجر اقتادوا عباس إلى عدة أماكن قبل محاكمته، كان منها وادي النطرون ومنطقة في الصحراء بين القاهرة والإسكندرية لا يذكر اسمها لكنها كانت خيام، إلى أن جرى ترحيله إلى سجن الواحات، بعد الحكم عليه بـ7 سنوات.
في إحدى ليالي صيف 1960، سرّب أحد المساجين أوراقًا خاصة من عنبر الشيوعيين، ما أغضب إدارة السجن التي أمرت بعقاب المساجين، فانهالت الشوم تحطم الأجساد. ولأن عباس كان يرد السب على الحراس نال النصيب الأكبر من الضرب المبرح، إلى أن انهار. هنا أسرع الحراس يبلغون مأمور السجن بوفاة عباس، فطلب منهم أن يتركوه إلى أن يتصرف في تلك المصيبة، خاصة أنه تلقى أوامر بألا يقتل أحدًا من الشيوعيين في المعتقلات، بعد حادثة شهدي عطية الشافعي.
قبل أيام من تلك الواقعة، قُتل شهدي عطية الشافعي، في سجن أبو زعبل بعد حفلة تعذيب مماثلة، أثناء زيارة عبد الناصر ليوغسلافيا، ما تسبب في حرج بالغ لعبد الناصر أمام الرئيس تيتو، ومن ثم بدأ التعامل مع المعتقلين يتخذ طرقًا أخرى أكثر حرصًا.
نُقل عباس إلى المستشفى، وبعد ثلاثة أيام عاد إلى زنزانته، يسير بالكاد، يستند على جدران العنبر.
- إيه دا؟ إنت لسة حي يا عباس مش قالوا إنك مت؟
= أيوة مت، وربنا حاسبني ودخلني جهنم معاكم.
مشهد النهاية
كنتُ أتأمل صورة نادرة يظهر فيها عباس عندما قال لي بريري "اكتب أنه كان يتقن طب الأعشاب". كان عباس يشعر بآلام الناس حتى أنه أشفق عليهم من ارتفاع أسعار الأدوية، فاستعاض عنها بتركيبات عشبية، كانت تفلح مع بعض المرضى، لكن ليس الكل. أصاب بريري من مهارة عباس تلك، لكنه أبدًا لم يتقنها مثله.
منذ أن استقر عباس في قنا، تعوّد المرور على أصدقائه كل أسبوع، يمنح أحدهم وصفة علاج بالأعشاب، يداعب آخر بنكتة أربعينية قديمة، وبين ذلك كله كان دائم الحكي عن ذكرياته مع حدتو، وعن المعتقل، وتظاهرات العمال، وغيرها... وفي كل مرة كان لا ينسى أن يسب بمناسبة وبدون "الله يخرب بيتك يا عبناصر".
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أصيب عباس بأزمة في التنفس، كالعادة، لم تفلح معها الأعشاب هذه المرة، فنقل على إثرها إلى مستشفى قنا العام، ليجد كل أصدقائه تجمعوا للمرة الأولى منذ يوليو/ تموز 2013. استمر البحث عن غرفة عناية مركزة إلى أن بدأت حالته الصحيَّة تتدهور .
كان عباس ما يزال يحتفظ بحلوى "أرواح" في جيب بنطاله، أهدى واحدة لطفلة تجاوره في السرير، نظرت أمها إلى عباس في قلق، وترددت في منع طفلتها من قبول الهدية، لكن عباس بادرها "خليها تاخدها يا ستي دا اللي فضل من جدو". قال تلك الجملة ودخل في غيبوبة وبعد أربعة أيام غادر عباس دياب دنيانا.