كادت صفاء تحرم من فرصتها في التعليم، لأن هاتف منزلهم رن في أحد الأيام، عندما كانت في الصف السادس الابتدائي، فأجابته، ودردشت قليلًا مع المتصل، فهددها أبوها بمنعها من استكمال الدراسة، لأن الفتيات المهذبات لا يجب عليهن التباسط مع رجال أغراب على الهاتف أو في الحياة عمومًا.
ليست الرغبة الذكورية في الهيمنة على المرأة جديدة، ولكن بدا أنها أخذت أشكالًا تأثرت بالتطور الاجتماعي الذي غيب الشكل الرجعي في مقابل ظهور صورة جديدة لذكورية "عصرية"، لكن قصة صفاء وأقرانها، تكشف أن الأفكار الرجعية مازالت تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة، الممنوعة من أبسط الأشياء، لدرجة يبدو معها التزين بغير كريم الوجه رفاهية بعيدة المنال.
الحجاب أسفل الدش
تريت صفاء صبري في عائلة متزمتة في قنا، ورغم عدم تشدد عائلتها دينيا إلا أنها لا زالت تذكر تفاصيل طفولتها وهي الآن في الـ 25 من عمرها "تربيت وكبرت في أسرة منغلقة دون أن أربط بين ما يحدث لي وبين أني أنثى، كنت أشعر أن ما يحدث في أسرتي هو حالة فردية، ولكن عندما كبرت وبدأت أنفتح على الدنيا قليلًا اكتشفت أن الحياة التي عشتها لم تكن من الطبيعة في شيء خاصًة بعد الآثار النفسية التي خلفتها علي. كان أبي يمنعني من اللعب في الشارع منذ وصلت للصف الرابع الابتدائي، ومن حينها بدأت سلسلة المحظورات".
بعدها بعامين، حين هددها والدها بحرمانها من التعليم، لم يكن المتصل على الهاتف شخص غريب، بل صديقًا له "وكلمته بطريقة عادية ولكن مرحبة. صرخ في أبي غاضبًا، عشان طريقة كلامي، وبعدين قال إني مش هكمل تعليمي الثانوي، رغم أني كنت في سنة سادسة ابتدائي وقتها". ويبدو أن التهديد كان السمة التي اختارها الأب في توجيه ابنته "مرة تانية مش فاكرة عملت إيه، كان عقابه ليَّ أني ألبس الحجاب في البيت طول الوقت، قال لي: إياكِ تقلعيه حتى وأنت بتستحمي".
لم تكن صفاء تخرج من منزلها أبدًا إلا مع أسرتها في زيارات لأقربائها، وأثناء المناسبات "مكانش ليا مكان أخرج فيه وأشوف العالم غير المدرسة، ودا السبب إن تعليمي واستكماله كان مهدد طول الوقت".
اكتشفت صفاء أن ما تواجهه مع أسرتها ليس طبيعي، عندما وجدت صعوبة في الاستماع إلى الأغاني في حضور أي من أخيها أو أبيها، اللذان كانا يمنعانها خشية أن تتأثر بالمحتوى العاطفي للأغاني "والدي قال لأخويا لما تلاقيهم مشغلين أغنية شغل لهم قرآن"، تقول "مش محتاجة أتكلم عن عدم وجود خصوصية في موبايلي، لو حطيت له رقم سري والدي بيوبخني وبيفكر إيه اللي أنا بحاول أخبيه".
ثم جاءت لحظة الدخول إلى فيسبوك "والدي ماهديش إلا لما قفلت حسابي"، لأنه يعتبر المجال الافتراضي مثل الشارع الذي تثير "ضحكتي العالية أو احتكاكي بأي رجل في أي مكان ولأي سبب مشكلة، حتى أنا وأمي وأختي مكناش بنخرج لشراء الطلبات، طبعًا في وضع زي دا مقدرش أتكلم عن حرماني من السفر أو العمل أو دراسة مجال معين، لأن الحقوق الأقل لم أحصل عليها من الأساس".
لم يقتصر التشدد والتحكم على الأب فقط، فأمها مثله كانت تعنفها عندما تطلي أظافرها، وكان أخاها يعنفها عندما تخرج إلى الشرفة مكشوفة الرأس "حياتي زي السجن في بيت ضيق ومع أسرة متشددة، ومفيش لي أي منفذ غير الكتب، والنتيجة أن كل دا أصابني بالقلق المزمن والوسواس القهري لفترة من حياتي، ولسة باتعالج منهم لحد دالوقت".
يُشير أحد مراكز العلاج النفسي الأمريكية إلى أن الإجهاد المزمن داخل الأسرة هو مصدر قلق على الفرد لأنه غالبًا ما يترك المريض مع خيارات قليلة لتخفيف التوتر، فيمكن أن ينتقص من الصحة العقلية والجسدية، وبمرور الوقت، يمكن أن يؤدي إلى القلق أو الاكتئاب.
كما تُظهر بعض الأبحاث أن العلاقات الأسرية السلبية يمكن أن تسبب التوتر، وتؤثر على الصحة العقلية، بل وتسبب أعراضًا جسدية. ويمكن للأسر غير الداعمة أن تنتقص من الصحة العقلية لشخص ما وتؤدي إلى تفاقم مرضه.
حواجب كثيفة
تعيش سهيلة سمير، في محافظة الغربية، وتكن أسرتها شعور الريبة نفسه التي تكنه أسرة صفاء تجاه امتلاك المرأة وسيلة اتصال متطورة مثل الموبايل، حيث كانت أسرتها تسحبه منها وشقيقتها كل مساء وتعيده إليهن في الصباح "عشان مفيش واحدة فينا تسهر تكلم راجل غريب".
ومثل الموبايل، كانت سهيلة، التي تبلغ الآن 32 سنة من العمر، ممنوعة أيضًا من استخدام الكمبيوتر، الذي يحتفظ به أبوها في غرفته، "بيفتحه عشان الدراسة فقط ولوقت محدد بالثانية، هو أو ماما بيفتحوه بكلمة السر، وكان الإنترنت ممنوع عندنا في الوقت الذي كان فيه كل الناس على السوشيال ميديا". لم تستسلم سهيلة "كنت بروح إنترنت كافيه أتواصل مع أصدقائي من غير ما يعرفوا".
في قصتي سهيلة وصفاء، يبدو امتلاك القدرة على الاتصال التكنولوجي بالآخر، مسارًا خارج نطاق السيطرة الأسرية، لذلك يقطع أهليهما الطريق إليه قبل بدايته، لكن أسرة مريم محمود، 21 سنة، التي تسكن محافظة الوادي الجديد، لا تثق في أي اتصال خارجي من الأساس، وتقطع أي طريق يؤدي إليه، فإذا كان الإنسان يتصل مع العالم المادي أول ما يتصل بوجهه، فإن أبيها يحتقر المكياج بكل أشكاله ويعتبره أمرًا قذرًا.
تقول سهيلة "أمي مبتحطش مكياج ولا بتروح كوافيرات، العائلة تربت أنها مبتحطش مكياج حتى في الأفراح، وطبعا مبنلبسش حاجة توضح معالم الجسم". ولعل الأفراح كانت التحدي الأكبر "عمري ما لبست فستان سواريه في حياتي، حتى في أفراح أقاربي بالبس كاجوال". تحلم مريم بالذهاب إلى ستوديو لثقب أنفها وارتداء حلق فيها، "طبعًا دا هيفضل حلم في خيالي لأن مقدرش أعمل كدا من غير موافقة أهلي".
برحيل أبيها استطاعت مريم، وأمها، التخلص من كثير من القيود التي كانت مفروضة عليهما، لكن يبدو أن ما اختبرته أمها من محاذير لسنين طويلة لم يكن سهلًا تغييره برحيل زوجها "كل مرة أحط أي مكياج بسيط تصرخ فيا وتفتعل خناقة لأنها مقتنعة، زي بابا بالظبط، أن المكياج قلة أدب، وأني هأكون محط أنظار الجميع بسبب شفتي الملونة بالأحمر. زمان مكنتش بقدر أعمل حواجبي الكثيفة إلا من وراء بابا. دالوقت بروح أعملهم من ورا أخويا، كأني بأسرق، وبمواعيد بارتبها مع ماما من قبلها".
تؤكد مريم أن ما تواجهه من عنت ليس مرده أي أسباب دينية، ولكنها عادات تظنها أسرتها الأصح لـ"صيانة" المرأة. مؤخرًا، عانت من زيادة وزن نصحتها على إثرها الطبيبة بضرورة ممارسة الرياضة والتمرين في الجيم، ولكن رفض أخيها، فلجأت إلى ممارسة رياضة المشي في الشارع. وطبعًا، في غياب أخيها حتى لا يعرف، وهو ما جعلها عرضة للتحرش المتكرر بسبب المشي لفترات طويلة في الشارع "لا يمكنني أن أعيش حياة طبيعية بمعرفتهم، سيحولون حياتي إلى جحيم".
الاعتداء النفسي والجسدي قد يؤدي إلى تأثير سلبي على الصحة العقلية. فعندما يتعرض الابن/ة لسوء المعاملة من الأهل، يمكن أن تحدث مشكلة تتعلق بالصحة العقلية وتتطلب حاجة مدى الحياة للعلاج؛ اعتمادًا على خطورة الاعتداء، ومقدار الوقت الذي حدث فيه والصحة العقلية الحالية للشخص، إذ يمكن أن تكون أعراض الاضطراب النفسي عميقة وتتطلب سنوات من التداوي.
كما أظهرت العديد من الدراسات أن العلاقات الاجتماعية، خاصة العلاقات الأسرية منها، يمكن أن يكون لها آثار طويلة وقصيرة المدى على الصحة العقلية للفرد. اعتمادًا على طبيعة تلك العلاقات، فيمكن تحسين الصحة النفسية أو التأثير عليها بشكل سلبي، وهو ما قد يهدد مريم في المستقبل.
كان كل ما أستطيع التزين به هو كريم ترطيب فقط وكان يتم التعامل معه باستنكار، كانت العطور كلها ممنوعة من دخول المنزل.
- ريهام أحمد
البنطلون عدو الثقافة
لا تختلف تجربة ريهام أحمد*، عمن سبقوها، فرغم أنها تبلغ من العمر 38 سنة، لكنها ما تزال تحت وطأة ما اختبرته في مراهقتها وشبابها في ظل نشأتها في عائلة متشددة اجتماعيًا.
لم تنتم ريهام لأسرة متدينة ولكن في حياتها الجامعية، كانت سيطرة الدعوة السلفية على المجتمع وصلت ذروتها، وكان أباها وأهل قريتها من الذين تأثروا بخطابها، ورغم ذلك "لم تكن تعاليم الدين وما يقوله الدعاة تطبق إلا على النساء فقط، فأصبحت وشقيقاتي تحت بصر ومراقبة أفراد العائلة جميعًا".
كانت ريهام ترتدي ملابس فضفاضة مثل الجيبة أو العباءة والخمار. تتذكر في إحدى المرات أنها كانت مرتدية دبوسًا لامعًا على الخمار أثناء ذهابها للجامعة فوجدت "واحدة من الأخوات تنهاني بأن هذا الدبوس قد يسبب فتنة، ويلفت الأنظار".
في المنزل لم تكن الفتاة معتادة على المكياج، لأن "زينة المرأة لزوجها وحسب"، فكان كان كل ما تستطيع وضعه للزينة "كريم ترطيب بس وكان يتم التعامل معه باستنكار، كانت العطور كلها ممنوعة من دخول البيت، أو حتى لبس فستان سوارية، والغريب أني كنت أمشي مع القطيع ومحستش أن ده ضايقني".
تزوجت ريهام منذ سنوات، وصارت تعيش الآن في السعودية، التي تتمتع فيها بقدر من الحرية، ولكن ما تربت عليه لا يؤثر عليها في تعاملها مع الرجال، الذين انعزلت عنهم طوال حياتها تقريبًا، ولولا عملها في التدريس بالسعودية لما عرفت أن تتعامل مع أي وظيفة أخرى تضطر فيها للتعامل مباشرة مع الرجال. تزور قريتها من حين لآخر وتنهرها أمها وأختها على لبسها "البنطلون الواسع" لأنه ليس من عاداتهم أو تقاليدهم.
هذه التقاليد المتقادمة، التي ما يزال يعتنقها كثيرون، وربما تتعاظم "قدسيتها" في المدن والقرى البعيدة عن العاصمة والمراكز الحضرية، تهدد عيشة النساء، ولا تنغصها فقط، بحسب النساء الأربعة اللائي جمعتهن معاناة واحدة رغم اختلاف البيئة التي عشن فيها، ويتفقن جميًعا أن المجتمع الذي يتجاهل أو يقلل من قيمة ما يتعرضن له من ممارسات، لا يجب عليه أن يتفاجأ حين تتعرض امرأة إلى الإيذاء الجسدي الذي يصل أحيانًا للقتل.