في مفارقة درامية تليق بإحدى نصوصه، توفي السناريست مصطفى محرم في شهر رمضان الذي شهد في سنين سابقة ذروة نجوميته الدرامية التي لم يدرك مثيلها في السينما رغم إنجازه 90 فيلمًا لها، وربما يمنح مسلسلي لن أعيش في جلباب أبي وعائلة الحاج متولي اللذان كتب السيناريو لهما خلودًا لاسمه يتجاوز سنين كثيرة مقبلة.
لكن أكثر ما يميز محرم، الذي بدأ مشواره السينمائي مبكرًا بعد تخرجه من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، هو الاهتمام بالنص الأدبي ومحاولاته المستمرة تقديم معالجات تناسب الصورة السينمائية أو التلفزيونية وتجتذب في الوقت نفسه جمهورًا جديدًا غير جمهور الكلمة المكتوبة، فبعد تخرجه في الجامعة، انضم محرم لـجمعية الفيلم ثم لجنة القراءة في مؤسسة السينما التي كان يديرها المخرج صلاح أبو سيف، قبل أن يتخذ خطوة جادة نحو دراسة الفن بالالتحاق بقسم السيناريو في معهد السينما، وهي عناصر ساهمت مجتمعة في إثراء الحصيلة الثقافية للكاتب الذي اقترن اسمه بروائيين بارزين نقل نصوصهم إلى السينما والتلفزيون.
في البدء كانت الكلمة
جاءت بداية محرم الفنية بتحويل مسرحية علي سالم أغنية على الممر لنص سينمائي أثار الإعجاب والانتباه وحاز على جوائز دولية، ولعل ذلك ما زاد من حماس السيناريست الشاب للاهتمام بمعالجة النصوص الأدبية ليصبح فيما بعد كاتب السناريو الأكثر تعاملًا مع الأدب المصري، حيث إنه قدم معالجات بصرية لروايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وثروت أباظة وإسماعيل ولي الدين ونجيب الكيلاني.
على الرغم من ظهوره الأول من خلال فيلم "غير جماهيري" أو "مستقل" بمعايير السينما الحالية، فإن التغيرات السياسية والاجتماعية دفعت بمصطفى محرم نحو أشكال أكثر جماهيرية دون أن يقع في فخ الخفة، وهو ما تعكسه سلسة أفلامه مع نبيلة عبيد المأخوذة عن روايات إحسان عبد القدوس التي تعاون فيها مع المخرجين أشرف فهمي وحسين كمال، مثل لا يزال التحقيق مستمرا وأرجوك أعطني هذا الدواء، وهي أعمال ساهمت في صناعة نجومية عبيد، وأثارت في الوقت نفسه اهتمام منافستها نادية الجندي، لتستعين بمحرم في صياغة خلطة شعبية تشمل الصعود الطبقي والانتقام والجريمة، في أفلام مثل الباطنية وشهد الملكة ووكالة البلح والخادمة، وتكشف كذلك عن ذكاء محرم في التعامل مع النص الأدبي، على اختلاف مستوياته الإبداعية، فإسماعيل ولي الدين، الضابط السابق، والكاتب الذي اشتهر برواياته ذات المبيعات الضخمة، يكاد يتناقض مع الأدب المحفوظي المشغول بالأسئلة الوجودية، ولكن محرم اختار من الكاتبين ما يناسب وجهة نظره، فـالباطنية التي يغلب عليها الطابع البوليسي، تكاد أجوائها تقترب من عالم شهد الملكة، وهو إحدى فصول ملحمة الحرافيش، من حيث اعتمادهما على قصة الصعود الطبقي لامرأة معدمة.
الطابعان الاجتماعي والتجاري لم يستحوذا وحدهما على إنتاج صاحب لن أعيش في جلباب أبي، حيث إنه شارك في موجة السينما الواقعية مع المخرجين عاطف الطيب وعلي بدر خان من خلال فيلمي الحب فوق هضبة الهرم للأول وأهل القمة للثاني، اللذان ينتقدان سياسة الانفتاح الاقتصادي وما صاحبها من تغيرات اجتماعية وسياسية ذات تأثير سلبي على الفرص والظروف الاقتصادية للشباب، وهو الهم نفسه الذي شغل محرم في فيلم حتى لا يطير الدخان لأحمد يحيى.
لكن ذلك النجاح الفني لمحرم، الذي استمر حتى التسعينات، تأثر مثل غيره من السينمائيين بالأزمة الإنتاجية التي واجهتها السينما خلال الحرب بين العراق والكويت، التي أدت إلى نقص كبير في عدد الأفلام المنتجة سنويًا في مصر، و مع حدوث انقلاب السينما الجديدة بفيلم إسماعيلية رايح جاي في عام 1997 تراجع نشاط مصطفى محرم السينمائي واتجه مع جيله من النجوم لوسيط آخر هو الدراما التليفزيونية.
النجاح على طريقة عبد الغفور البرعي
لم يكن محرم الذي اتجه لكتابة السيناريو في نهاية التسعينات جديدًا على التليفزيون، فكما يروي في كتابه حياتي في التليفزيون، بدأ مشواره مع الكتابة للدراما بالتمثيليات القصيرة للتليفزيون المصري في الستينيات، ثم بعض المسلسلات من إنتاج ستوديوهات الخليج وتونس في السبعينات، أبرزها مسلسل ابن خلدون الذي اضطلع بدور البطولة فيه نور الشريف، وعرض في الدول العربية لكنه مُنع في مصر لاعتراض الأزهر على إظهار السيناريو، الذي كتبه محرم، جوانبًا سلبية في شخصية ابن خلدون، في حين اعتبره الأزهر شخصية دينية لا يصح إظهارها في صورة انتهازي يتكالب على السلطة، كذلك لم يسلم المسلسل من الرقيب الذي اعترض على جملة حوارية وردت على لسان صديق لابن خلدون يقول فيها "مصر منكوبة بحكامها". حسبما يشير الكتاب.
غير أن النجاح الدرامي الفعلي جاء متأخرًا لمحرم، تمامًا مثل إدراك الثروة الذي حدث متأخرً أيضًا لبطله الأبرز عبد الغفور البرعي، ففي منتصف التسعينيات عرضت المنتجة ناهد فريد شوقي عليه فكرة تحويل الرواية القصيرة لإحسان عبد القدوس إلى مسلسل تليفزيوني، بسبب نجاح معالجاته السينمائية لروايات عبد القدوس، وطرحت كذلك أسماء لبطولة المسلسل مثل محمود عبد العزيز ويسرا ومعالي زايد، لكن محرم كان مقتنعًا أكثر بنور الشريف ومعالي زايد، لأن جمال يسرا في رأيه سيجعل من الزواج بفقير مثل عبد الغفور أمرًا غير منطقي، وكان حسن حسني هو المرشح لدور المعلم سردينة، لكن تم استبعاده لمغالاته في أجره، وبينما كان محرم متخوفًا من اختيار عبد الرحمن أبو زهرة للدور وغير متحمس كذلك لترشيح عبلة كامل لاحقًا لدور فاطمة، كان المخرج أحمد توفيق واثقًا من اختياراته التي أثبتت نجاحها مع العرض، وكأن محرم في هذه الحالة الأخيرة ناقض بطله بعيد النظر في رهاناته على المكسب.
ويصف محرم نجاح المسلسل بأنه قد "زلزل عروش كتاب كانوا يظنون أنه ليس هناك مثلهم من قبل أو بعد"، حسبما يقول في الكتاب، في إشارة واضحة لأسامة أنور عكاشة ملك الدراما التليفزيونية في ذلك الوقت.
الفن بناء
يلاحظ المتلقي عند المقارنة بين رواية عبد القدوس الورقية ونسختها الدرامية، أن مصطفى محرم أبقى على الهيكل الرئيسي للرواية ولكنه أجرى عليها تعديلات كثيرة جعلت النص المصور أكثر جاذبية للمزاج الشعبي منه للمتلقي الذي اعتاد رومانسية عبد القدوس، فحوَّل شخصية عبد الغفور البرعي لنموذج مثالي يتوحد معه الجمهور، بينما تبدو الشخصية في الرواية ذات وجوه أخرى، فهو لا يكتب بعض أملاكه باسم بناته من أجل تأمين مستقبلهم بل للتهرب من الضرائب، وهو متهم بالبخل ممن حوله، وابنه عبد الوهاب لا يعود إليه مثلما يحدث في النهاية التليفزيونية، بل يبقى كما هو حائر ومتخبط بعد فشل زواجه الأمريكي، أما نظيرة فتقيم علاقة مع صديق شقيقها في شقته الخاصة، فشخصيات الرواية تبدو أكثر قربًا من الحقيقة بتناقضاتها وحيرتها، لكن محرم يفضل مغازلة جمهور المسلسلات والابتعاد عن مشكلات الرقابة بتقديمه النهاية السعيدة التي يعود فيها الابن المتمرد ليعمل مع والده العصامي صاحب قصة النجاح التي ستتحول لحلم يداعب الطبقات الطامحة للصعود.
"الفن ليس مجرد فكرة، وإنما الفن بناء"، هي جملة قالها نجيب محفوظ لمصطفى محرم، لتتحول إلى عقيدة فنية بالنسبة له، حيث إن أي فكرة قابلة للمعالجة الجديدة مهما جرى تناولها من قبل كثيرًا، فالعبرة لديه بالمعالجة الدرامية والبناء الجديد والمختلف، كما يتضح في معالجته السابقة لـلن أعيش في جلباب أبي، وتكرر معه عندما نفدت منه الأفكار وطلب منه المخرج محمد النقلي إعادة تقديم مسلسل الساقية، لعبد المنعم الصاوي مرة أخرى، ومع قراءة محرم للرواية لفت نظره أن العمدة بطل الرواية متزوجًا من أربع نساء، ليقرر تقديم الفكرة ولكن بشكل مختلف عن أجواء المكائد والكراهية المعتادة بين الزوجات، ويقرر قراءة كتب عديدة عن حياة الأنبياء وأجزاء السيرة النبوية المتعلقة بزوجات الرسول، وبعد معاناة عصيبة استوحى فكرة المسلسل الأساسية من السيرة النبوية وقصص زواج الرسول، بحسب ما يشير في سيرته الذاتية.
ومع اقتناع نور الشريف بالمسلسل بدأت ترشيحات الأدوار الأخرى ومنها دور الزوجة الثانية حيث كانت عبلة كامل مرشحة له، ولكنها كانت مشغولة فذهب الدور لماجدة زكي، ويبدو محرم قاسيًا مع الممثلات والممثلين الذين يرفضون العمل معه، فيصف معالي زايد بأنها الأقل قيمة وحجمًا في النجمات اللاتي عملن معه، وذلك ردًا على اعتذارها عن القيام بدور الزوجة الثالثة بنت البلد، بسبب صغر مساحة الدور، كما سخر من ندى بسيوني، المرشحة لدور الزوجة الرابعة لطلبها زيادة مساحة دورها وكتابة اسمها بعد نور الشريف، قائلًا إن سعاد حسني كانت أكثر تواضعًا منها، كذلك يصف محمد نجاتي بأنه كان يتكلم كمارلون براندو أو آل باتشينو عند عرض دور ابن الحاج متولي عليه ليحصل مصطفى شعبان على الدور.
.. غير قابل للنقد
ما بدا في تعليقات محرم الساخرة يظهر كخصلة تلازم شخصه، فهو لا يحتمل بشكل أو آخر أي انتقاد لأعماله، فبعد نجاح لن أعيش في جلباب أبي، لم يتقبل السناريست النقد الشديد لمسلسل رد قلبي الذي قدمه بعده بعامين عن رواية يوسف السباعي، وهاجم الفيلم ووصفه بالسذاجة والخطابية والمبالغة في الأداء والمشاهد الميلودرامية التي تليق بمسرح يوسف وهبي، وهاجم من انتقدوا المسلسل باعتبارهم غير متخصصين وأن النقد الفني قد أصبح مهنة كل من هب ودب.
الأمر نفسه يظهر مع عائلة الحاج متولي، فبعد نجاحه جماهيريًا يكتب محرم في كتابه عن حياته في التلفزيون، إن المسلسل "قضى على شهرة أي مسلسل منذ بداية عصر المسلسلات التليفزيونية حتى وقتنا هذا"، مستشهدًا بحرص بعض الشخصيات العامة على الإشادة بالمسلسل مثل منى عبد الناصر ورفيق الحريري الذين حرصا على مقابلته وتهنئته، ويهاجم في الوقت نفسه من انتقدوا المسلسل باعتباره يروج لتعدد الزوجات، فيصف أحدهم بـ "رئيس أحد الأحزاب اليسارية الفاشلة" و يهاجم عضوات المجلس القومي للمرأة اللاتي طالبن بمنع المسلسل لأنه وفقهم يهدم ما بناه المجلس في سنوات.
انشغال ثقافي أم محاول لإرضاء الجمهور؟
تبدو علاقة محرم الوثيقة بالثقافة الأدبية وقراءاته الغزيرة في مجالات النقد والشعر الإنجليزي وترجمة الكتب النقدية ومعرفته بالأدب الكلاسيكي، و حفاظه في الوقت نفسه على الروح الشعبية والجماهيرية في أعماله مثيرة للتأمل، فهناك من كان يرى تناقضًا بين الثقافة واجتذاب الجمهور، وهناك من رأى أن ثقافة الكاتب لا ينبغي أن تمنعه من إرضاء الجمهور بأعمال تجمع بين حرفة السيناريو الجيدة والانتشار، وقد أجاد محرم اللعب على الثيمات التي لا يمل منها الجمهور مثل ثيمة "الصعود" التي استخدمها في أفلام نادية الجندي وحققت نجاحًا ضخمًا في لن أعيش في جلباب أبي، وكذلك ثيمة صراع النساء على رجل واحد كم في فيلم دانتيلاـ و مسلسل عائلة الحاج متولي.
ويمكن اعتبار الانشغال بالأدب ملمحًا رئيسيًا في مشوار مصطفى محرم، فجملة محفوظ المتعلقة بالبناء تجاوزت إلهامه تحويل النص الأدبي إلى سينما أو دراما إلى إعادة بناء أفكاره التي سبق وأن قدمها، فحوَّل الباطنية لمسلسل، وكذلك قدم معادلًا أنثويًا لـعائلة الحاج متولي في زهرة وأزواجها الخمسة التي قامت ببطولته غادة عبد الرازق، قبل أن يعود ليقدم في نهاية مشواره عملًا جديدًا لافتًا ومقتبس أيضًا من كتاب هو مسلسل ريا وسكينة المأخوذ عن كتاب رجال ريا وسكينة.
هل كان مصطفى محرم باعتماده على الأدب يراهن على قدرته الجمع بين القيمة الأدبية للنص الأصلي وتقديم ما يؤثر في شريحة كبيرة من الجمهور؟ ربما يجيب على ذلك السؤال أعماله نفسه التي تصمد في مواجهة الزمن وتقلب الأذواق، لكن الأكيد أنه برحيل مصطفى محرم تكون الدراما قد فقدت آخر الثلاثة الكبار في الكتابة للتليفزيون، بعد ما رحل وحيد حامد منذ شهور قليلة، وسبقهما أسامة أنور عكاشة منذ سنوات طويلة.