في منزله بمدينة 6 أكتوبر، استقبلني الكاتب إبراهيم عيسى لإجراء حوار حول فيلم صاحب المقام والنقد الموجه له ولفيلميه السابقين. أول ما لفت انتباهي في مكتب عيسى تمثال نصفي صغير له مُهدى من جمعية محبي نادي الزمالك، وجائزة الاتحاد العالمي للصحف للدفاع عن حرية الرأي التي نالها عام 2008، والتي تمنح باسم جبران تويني الصحفي اللبناني الذي تم اغتياله.
وفي الخلفية مكتبة كبيرة تضم كتبه، وبها ركن لمؤلفاته والجوائز التي حصدها عبر مشواره الصحفي والأدبي، منها جائزة إندكس لحرية الرأي والتعبير عام 2011، وعلى الحائط المجاور للمكتب جائزة صحفي العالم من رابطة المحررين البريطانيين عام 2011، وفي الجهة المقابلة للمكتب عدة لوحات منها بورتريهات لعيسى ولوحات فنية مختلفة، وبأسفل الحائط لوحات مطبوعة لبوسترات مؤلفاته، إلى جانب جائزة نجيب محفوظ للرواية وجائزة القائمة القصيرة للبوكر.
حكى عيسى عن الإسكندرية في بداية جلستنا، عندما علم أنها مسقط رأسي، "أنا من مواليد 1965، من أوائل السبعينيات وفي مرحلة الطفولة حتى الجامعة كنت أقضي الصيف بالإسكندرية عند عمتي بمحرم بك، أتجول بجميع المناطق، دخلت كل سينمات الإسكندرية قبل مولدك وبعده، الإسكندرية مدينة منتجة للإبداع والسينما والفن، كما أنها استقبلت أول عرض سينمائي". يقصد أول عرض سينمائي في مصر والثاني عالمًيا، في مقهى زوانى في يناير 1896.
عن دور السينما التي شكّلته قال "أهم سينمات كونتني كمحب للسينما، من أول سينما النصر بقويسنا بلدنا، وعندما أغلقت، كان هناك موقف أتذكره بدلالته، أن آخر فيلم عُرض بها كان اسمه أبدًا لن أعود وظل أفيش الفيلم بضع سنوات رغم إغلاق السينما، حتى هدمت وأصبحت عمائر، وكأن هذه السينما لن تعود مرة أخرى في بيت الذكريات الحلوة، ومعظم أفلام فترة السبعينيات والثمانينيات شاهدتها بين الإسكندرية والمحلة وبنها وطنطا، وبعد أن دخلت مرحلة الجامعة بدأ ظهور سينمات القاهرة بالنسبة لي".
يرى عيسى أن أحوال السينمات في مصر الآن بائسًا جدًا "الدلتا بها حوالي خمس أو ست دور عرض، زمان كان هناك خمس أو ست في ميدان بطنطا وحده، وفي الثمانينيات وبعد أن ساء وضع دور عرض كثيرة وتهالكت، بدأت تنشأ سينمات جديدة مثل سينما كريم التي كانت شراكة بين يوسف شاهين وحسين القلا ونقابة السينمائيين، وكانت بالنسبة لنا منتدى سينمائي عظيم، كانت سينما كريم1 تعرض الأفلام التجارية المختارة، وكريم2 القاعة الثانية كان بها 99 كرسيًا، وكانت تقيم أسابيع خاصة لأفلام مخرجين كبار".
من الباب الواسع
شغلني اهتمام عيسى المبكر بالسينما كمحب أو مشاهد متمرس، لسؤاله عن مدى علاقته بها كدارس أو كاتب سينمائي حينها، ولماذا انخرط في العمل الصحفي بدلًا من أن يصبح سيناريست في عمر الشباب، فرد "أنا عملت من إجازة سنة أولى جامعة بالصحافة في روز اليوسف، والصحافة تدخلك السينما من الباب الواسع، أنا صديق فنانين مصر وأحضر كل مهرجانات السينما والندوات والعروض الخاصة، بالإضافة لكتابتي ونشري للقصة، أستطيع القول إنه باستثناء جيل الأساتذة وحيد حامد وبشير الديك، أنني من أقدم كتاب السيناريو في مصر، صحيح أول فيلم ظهر لي في مولانا عام 2017، لكن كتبت سيناريوهات مع محمد خان وعلي بدرخان وساندرا نشأت سنة 94، وشاركت في كتابة فيلم أيام السادات، فعلاقتي بالكتابة للسينما بدأت وأنا تحت الثلاثين".
سألته هل كان سبب عدم ظهور سيناريوهاته مبكرًا هو لأسباب إنتاجية أم غيرها فأجاب "بعضها لأسباب إنتاجية، وبعضها لاختلافات مع المخرجين على الرؤية في السيناريو، وبعضها زهقي من الاستمرار، وبشكل أكثر وضوحًا انخراطي في العمل الصحفي كرئيس تحرير لجريدة الدستور التي امتلكت صيتًا هائلًا، فانشغلت بمعاركي الصحفية والسياسية، فلم تعد السينما من أولوياتي، وبالطبع كان السبب في ذلك النجاح المباشر والكبير الذي حققته، فانشغلت عن السينما وعدت لها بعد 20 سنة تقريبًا".
وعن تركه للعمل الصحفي والانتقال للإعلام أو الكتابة السينمائية، أضاف "بالنسبة لي عندي رسالة رئيسية في الحياة، ربنا كرمني بأن أستطيع التعبير عنها بوسائط مختلفة، وفي الوقت أنا عندما كنت أظهر على التليفزيون كل يوم، قدمت روايات: حروب الرحماء، ورحلة الدم، ومولانا، فيمكن وصول الرسالة للناس عبر وسائط مختلفة".
رحلة صاحب المقام
يرصد فيلم صاحب المقام حالة التدين الشعبي وتأثيرها في المصريين متمثلة في التبرك بأولياء الله الصالحين، وعن أصل الفكرة وكيف تبدأ عنده يشير عيسى "لا يوجد على الإطلاق عمل فني روائي أو سينمائي، إلا وله أصل من الواقع لحم ودم، وأنت تصوغه روائيًا أو سينمائيًا، منطلقًا من تجارب شخصية أو محيطة بك، أنا من عشاق دكتور سيد عويس، وهو له دراسة عظيمة رسائل إلى الإمام الشافعي، ودكتور عمار علي حسن له رسالة دكتوراة رائعة عن الصوفية، وأستاذ جمال الغيطاني له كتابات كثيرة".
ويتابع "عندما أعمل على كتابة روائية أو سينمائية لابد أن ألجأ إلى مراجع، فاتهامي بسرقة كتاب الرسائل هو شيء بائس جدًا، وبالمناسبة أنا فوجئت بمكالمة من دكتور مسعد عويس ابن سيد عويس، وهو عالم اجتماع كبير كأبيه وعمره 77 سنة حاليًا، وكان معجب بالفيلم إعجاب رهيب".
وحول اسم البطل يحيى المكرر في فيلم الضيف أيضًا، يحكي "أنا ابني اسمه يحيى، وأنا لي تجربة فقدان طفلي الأول بعد عدة أيام من ولادته، وكان اسمه يحيى أيضًا، فسميت ابني الثاني الأكبر حاليًا بنفس الاسم، وهذا الاسم بالنسبة لي أصبح مرادفًا فنيًا، خصوصًا مع تجربة مثل تسمية يوسف شاهين بطل أفلامه في السيرة الذاتية بيحيى".
وأضاف حول رؤيته السينمائية "بخصوص كتابة صاحب المقام أو الضيف أو مولانا، أعتبر أننا نحتاج هذا النوع من الكتابة لأنه غائب في مصر، الفيلم الذي به فكرة ورؤية ومشروع مثل أفلام السينما المستقلة لكن لها جماهيرية وتواصل مع الناس بالملايين، هناك مؤلفون في السينما المصرية عندهم عالم مثل وحيد حامد وبشير الديك ومحمود أبو زيد، وهذه العوالم غائبة الآن عن السينما المصرية عندما اختفى الجيل السابق بعالمه ورسالته الخاصة، السينما المصرية تنتج في السنوات الحالية قرابة 30 فيلمًا كل عام، وهذا رقم هزيل جدًا، وهناك أفلام شبيهة جدًا ببعضها، وحتى أفلام السينما المستقلة كثير منها مغترب عن عالمه، ويفشل تجاريًا".
قبل الدخول في العناصر الفنية، يطرح الفيلم من حيث الرسالة والمرجعية الفكرية، أكثر من تساؤل ومشكلة حول قضيته التي دارت حولها رحلة البطل والقصص الجانبية، بداية من الأزمة بين السَلَفية والصوفية، والأزمة بين المادية والروحانية، أو العلم والإيمان والتي سبق وتناولتها أفلام أو أعمال أدبية مثل قنديل أم هاشم، والذي يطرح رؤيته من خلال رحلة بطل يؤمن بشكل مطلق بالعلم ولا يصدق في الإيمان أو الخرافات المرتبطة به، بينما تقوده رحلته للإيمان بالتوازن بين العلم والإيمان.
رجوعًا لرسالة فيلم صاحب المقام، حيث دفعت إسلاميين لانتقاده بدعوى أنه يروج لخرافات التبُّرك التي تقع في الشرك والخرافة، ويربطون بين عيسى مؤلف الفيلم ومواقفه التي يعتبرونها تهدم الإسلام، كما دفع فئة من العلمانيين لانتقاد موقف الفيلم باعتباره دعوة للرجعية الدينية.
هذا يدفع للتساؤل عن ماهية الرسالة التي يريد تقديمها بشكل منفصل أو متصل مع خلفية المؤلف إبراهيم عيسى، فمع الانتقادات أو الهجوم العنيف في هذا الجانب، الفيلم رغم مباشرته جعلني أفكر في معنى، أن حل البطل لمشكلات الناس بشكل عملي، واعتباره عندما يذهب لصاحب المشكلة رسول أو ولي، هو إشارة لأن المشكلات لا يحلها الأولياء بل تحرك الناس بشكل عملي، وهذا تساؤل فلسفي أيضًا عن ماهية الله ومعضلة الشر، وهل هو من حرك ذلك البطل بيده/ قدره ويتدخل عندما يريد؟ أو هو صنع نظام كوني بآليات محددة أو قابلة للتطور كنظام البرمجة الخوارزمية، ليحاسب الناس على أفعالهم لذلك فهو لا يحل للناس مشكلاتهم ولا يوقف الحروب مثلًا لأنها من صنع الإنسان.
أرى الفيلم يدعو للتوازن بين العلم والإيمان، ومع احترام التبرك بالأولياء فهو لا يدعو إلى الإيمان بالخرافات أو التجاوزات التي تحدث، في أحد المشاهد عندما يذهب البطل يحيى لمسجد الإمام الشافعي ويعرف بأمر الخطابات، فيدور حوار بينه وبين مسؤول المسجد وصديق أبيه القديم، فيقول ليحيى:
- الناس البسطاء هنا في مصر من زمان، بيلجأوا للإمام الشافعي، بيحطوا جواباتهم يطلبوا منه الشفاعة والدعاء، ويدعوا ربنا سبحانه وتعالى إنه يخفف المرضى ويفك كربهم ويحل مشاكلهم.
- وبتتحل؟
- المشاكل اللي مش بتتحل مصيرها تنتهي، وساعتها بتتحل.
ثم يطلب يحيى ليحل للناس مشكلاتهم ويقول "آن الآوان الإمام الشافعي يرد على الجوابات دي".
وفي هذا السياق يوضح عيسى رؤيته "فيلم قنديل أم هاشم ينتصر للعلم والروحانيات ولا ينتصر للخرافات، وهو من الأفلام التي لابد وأن تشاهدها وكل الأفلام التي تعرضت لموضوع الصوفية بشكل أو بآخر بما فيهم فيلم المولد، مثلما تقوم برسالة دكتوراه لابد أن تقرأ الدراسات السابقة في نفس الموضوع.
والمأزق المتطرف هو أن الحكم عليك يكون إما بالانتصار للعلم بإنكار الروحانيات، أو الانتصار للروحانيات وإنكار العلم، في الحالتين لا يصح ذلك ولا الفيلم يقوله، لكن يتوجه بوضوح للتوازن بينهما، ما يهمني في الحالة التي يجسدها الفيلم أن ربنا يسمع الجميع، ليس أصحاب الذقون ولا العمائم فقط".
عن الجبر والاختيار
ويضيف "السؤال عن الجبر والاختيار هو محور الكون، أنا رجل بحترم مدرسة المعتزلة جدًا وبحترم مدرسة الرأي لأبي حنيفة في الفقه، وما أؤمن به هو أن الإنسان له إرادة تمارس الخير والشر، لأن الله إذا هو يجبرك على الشر فلماذا يحاسبك إذا كان ذلك مخطط له؟ لذلك الفكرة المهمة عند المعتزلة العدل والتوحيد والمحاسبة بذلك تكون متنافية مع العدالة الإلهية.
ويستكمل "ما أراه في المجتمع المصري وسبق وكتبت وعبرت عنه كثيرًا، أنه يقع تحت طائلة وطغيان التيار السلفي الوهابي، الذي هو تيار عدواني قائم على الحكم على الآخرين على دينك ومظهرك، حتى عندما نرصد التعبيرات التي استخدموها وانتشرت بيننا، مثل (هذا أخ ملتزم) ما شأنك أنت بالتزامه من عدمه؟ وما معنى ملتزم أصلًا؟ هل الالتزام باطلاق اللحية والزي المعين؟ أم ملتزم بمعنى أن كلمته محترمة يعمل بأمانة، وهذه الثقافة جعلت المصريين مثل مطوّعي السعودية الذين يقتحمون خصوصيات الآخرين، وهذه الحالة العدوانية عكس حالة التدين المصري الذي أصله التسامح والتراحم".
"الصوفية لا تحكم على الآخرين بل تحب، أي أحبوا أعدائكم مثلما يقول المسيح، ولا تقذف الناس بالحجارة ولا تكفر أحد ولا تقيم تنظيمًا مسلحًا، وعندما تعبر عن نفسها دينيًا تعبر بالبهجة مثل المولد والرقص والزار والإنشاد الديني وهذه هي مصر"، هكذا يرى عيسى الصوفية. ويواصل "لا أعتبر نفسي صوفيًا، إنما مثلا خالي كان رجل صوفي وله طريقة وشأن، أنا وُلدت على حلقات ذكر في بيتنا، ولهذا صاحب المقام هو حالة استعادة التدين المصري مرة أخرى".
نقد صاحب المقام
عن الهجوم الموجه للفيلم يرد عيسى "سنة 92 كان عمري 27 سنة، وبدأت أشتبك مع التيار الإسلامي في كتابات وندوات ومحاضرات وهكذا، أول ما كتب عني كان مانشيت إبراهيم عيسى كافر في جريدة الشعب الصادرة عن حزب العمل المتحالف مع الإسلاميين وقتها، فبالطبع لن أنزعج من أي هجوم بعد هذا العمر، أنا متفهم جدًا مشاعر الناس ومواقفهم، ومثل ما يوجد ناس تهاجمك هناك ناس تدعمك وتؤمن بك، وهذه ضريبة لابد أنا تدفعها".
يرى عيسى أن "ردود الفعل الهائلة هذه بما فيها العدائية أو الكارهة جزء كبير من النجاح، لكن البعض مشغول برد الفعل أكثر من الفيلم نفسه، وهناك أفكار مسبقة سواء بالحب أو بالكره الشخصي للعمل، والمشكلة أننا مجتمع نمطي للغاية يهتم بوضع الناس في قوالب، والتفاعل بالعواطف وليس بالوعي والعقل، وهناك قدر هائل من العدوانية والاستقطاب الشديد في المجتمع؛ فمن يكره طه حسين سيكره كتابه الأيام مثل الإسلاميين والسلفيين الذين يكرهون حتى على هامش السيرة، وهذا ينسحب على تيارات أخرى من الإخوان المسلمين أو من يصفون أنفسهم بالثورجية أو الدولجية، وأنا أقلق فقط على الفريق الذي أعمل معه أن يدخل في تصفية حساب اختلاف سياسي مع إبراهيم عيسى".
وعلى مستوى النقد الفني الموجه للفيلم أرصد عدة جوانب منها؛ أن تغير البطل للنقيض جاء دون تمهيد داخلي كافي لرحلته النفسية وإن كان هناك سبب واقعي، عرض نموذجي الخير والشر ممثل في شخصيتي الشريكان بشكل مباشر دون إعطاءهم أبعاد شخصية عميقة، غياب منطقية شخصية "روح" المنتور/ المحرك للبطل التي يفسر وجودها بواقعية في أحد المشاهد، بينما تبدو كشخصية خيالية في المشاهد الأخرى التي تقول بها رسائل الفيلم المباشرة، إضافة إلى غياب الرابط أو الترتيب بين الشخصيات الجانبية وعلاقتها بحبكة رحلة البطل التي من المفترض أن تساهم كل قصة في تصاعد الأحداث وتغير البطل بشكل مترابط معها بحيث مع آخر مشكلة يكون لابد وأن تنتهي ولا تسمح بالزيادة أو النقصان، وإقحام بعض المشاهد مثل زيارته للكنيسة والمشهد الكوميدي لمحمد ثروت وإيمان السيد، ومشهد الأكشن في إنقاذ الفتاة.
كذلك الاعتماد على مصادفات بشكل متكرر مثل شخصية مسؤول المسجد الذي كان صديقًا لوالد البطل ويتعرف على يحيى فور رؤيته، والشاب التائه الفاقد للذاكرة الذي يستردها بمجرد رؤية أبيه، ابن يحيى الطالب بمدرسة خاصة كبيرة بينما فريق مدرسته يقابل فريق مدرسة أحد المناطق الشعبية، وذهاب الناس الذين ساعدهم يحيى معه لينقذوا الفتاة دون تمهيد لكيف أقنعهم بذلك.
يعلق عيسى "النقد الذي أعرفه هو أن تشاهد الفيلم، وتسأل نفسك ماذا يريد المخرج/ الكاتب من الفيلم؟ هل استطاع الوصول لهدفه أم لا؟ هل استطاع عمله بشكل جيد أم لا؟ وصل لرسالته أم لا؟، أنت تفكك هذه الأدوات أمامك وتتحدث عنها، سواء أحببت أو كرهت الفيلم، وتشرح ذلك".
ويتابع "من الانطباعات التي قرأتها عن صاحب المقام من نقاد كبار، أن إبراهيم عيسى نضج وتتطور عن فيلم الضيف، والمفارقة هنا أنني كتبته قبل الضيف بأكثر من سنتين، وما أقوله هنا إنني أعي ما أقدمه؛ فيلم الضيف قيل عنه مسرحية ومقال سينمائي خطابي، ولا تظن أنني لم أكن أعلم أن كل هذا سيقال وأنا أكتب الضيف الذي تدور أحداثه في غرفتين وصالة، فهذا نوع من السينما، والذهاب إليه مقصود ومعني وليس ضعفًا، وهناك تجارب سينمائية عظيمة تنتمي لهذه النوعية، وعندما نعمل على فيلم مثل هذا طبيعي أن يكون الغلبة للحوار".
أما الروابط بين الحكايات وإمكانية زيادتها أو نقصانها يقول "لو تأملت الحكايات، ستجد احتياجًا وجوديًا إنسانيًا إلهيًا، أن سيدة تتوب وتنتظر علامة بقبول توبتها، وستجد احتياجًا طبيًا في البنت المريضة، وستجد احتياجًا عاطفيًا في الرجل الذي يريد الزواج، وستجد احتياجًا للأبوة وعودة الضال والمفقود، ستجد احتياجًا مصنوعًا عندما تكتشف أن البنت لم ترسل ولكن جارها مسؤول المسجد، وستجد دلالة واضحة أن كل من أرسل لهم الله رسول الإمام لكي يحل لهم مشكلاتهم، تجمعوا ليحلوا مشكلة أخرى، فليس شرطًا أن تكون رجل أعمال غنيًا كي تساعد أحد، هذا معنى ضروري أن نساند ونرحم ونتعاطف مع بعضنا بعضًا".
يتابع "هناك مثلًا حوالي ثلاثة مشاهد إضافية على هذه الحكايات حُذفت أو الحكايات التي عُرضت تم تكثيفها بعد المناقشة مع المخرج في السيناريو، وهناك مشاهد حُذفت في المونتاج، أما مشهد البلوت تويست الذي يوضح أن الزوجة أفاقت من الغيبوبة من البداية، في آخر الفيلم فتناقش معي المخرج والمنتج حول حذفه، ولكن أصررت على وجوده لأنه يعرض رسالة الفيلم في ضرورة العلم".
عن المشاهد المقحمة يرد عيسى "في مصر موالد العذراء يحضرها مسلمون أكثر من المسيحيين، ونضيء جميعنا الشموع في الكنيسة، أنا شخصيًا كنت أطلب من القساوسة الذين أتواصل معهم أن يصلوا من أجلي، مثلما أطلب من الشيوخ أن يدعو لي، وبطل الفيلم بما أنه مأزوم وزوجته في غيبوبة فيلجأ للجميع، أما مشهد الأكشن فهو رؤية المخرج وهو نفحة سينمائية ربما ترضي البعض أو لا، كما أن هناك مقامات في مصر بالصحراء، لم أدّعِ ذلك".
المقالية والرسالة
أما عن انتقاد المقالية والرسالة التي تطغى على فنيات أفلامه يقول "أي فيلم له رسالة حتى الأفلام التجارية البحتة بها رسالة التسلية والانبساط، تتغير الأهداف والرسائل من فيلم لآخر حتى لو كانت رسالة تافهة وهذا هو التنوع، لكن السؤال هو؛ لو طغت الرسالة على أفلامي الثلاثة وكانت شديدة المباشرة كما يقال، فما سر النجاح والجدل والاختلاف؟ وما العيب أيضًا في ذلك؟".
ويشرح "من أهم الأفلام التي شاهدتها في الفترة الأخيرة الباباوان، فما التقييم لهذا الفيلم من خلال رسالته؟ فهذه نظرة أستعجبها عند النقاد، لأن من المفترض أن نرحب بالتنوع والتعدد، فلا يمكن المطالبة بأن تكون كل الأفلام بنمط واحد، والحالة التي لا تفضلها ليست بالضرورة سيئة، من الممكن أن تكون عظيمة لكنك لا تحبها".
"تقديم الرسالة الذي أعنيه، يختلف عن عرض قضية أخلاقية في فيلم وعظي، وبما أننا نتحدث عن المدارس الفنية السينمائية، فأنا أفضل مدرسة فهم حسن الإمام للفيلم الناجح، الجمهور إما يضحك أو يبكي أو يصفق أو جميعهم، لأن هذا هو التفاعل مع الفيلم، مثل التفاعل مع مطرب عندما يغني، فإذا كنت جالسًا عاقدًا يديك، لم تستمتع أو تصفق، فهو غير مؤثر. هذه هي نوعية الأفلام التي تمسني، سواء خرجت من مدرسة الفن للفن أو الفن رسالة".
مكتوب
عن الاتهام بسرقة فكرة فيلم صاحب المقام من الفيلم الإسرائيلي مكتوب، فهناك تشابه بالفعل مع الفيلم الإسرائيلي في الفكرة القائم عليها، في تعرض بطليه اللذين يعملان بعمل غير شرعي لأزمة، تجعلهما يتوجهان إلى حائط المبكى ويأخذان الخطابات ليساعدوا الناس، وتتغير حياتهما في المقابل، وكذلك فكرة الرسائل تعد ظاهرة موجودة في الممارسة الشعبية بالمجتمع المصري، كما هي عند اليهود، والإضافة في فيلم عيسى هي مسألة تحقيق هذه الرسائل وكيفية معالجتها.
يعلق عيسى "من اتهم الفيلم بسرقته من الفيلم الإسرائيلي، لم يبذل أي مجهود في السؤال عن متى كُتب صاحب المقام، فأنا كتبت الفيلم في الأصل لعمرو سعد وتناقشنا في الفكرة قبل فيلم مولانا وانتهيت من كتابته بعده، وأرسلته له في صيغته النهائية في 25 مايو/ أيار 2017، والفيلم الإسرائيلي عُرض في إسرائيل سبتمبر/ أيلول 2017".
"أما بخصوص فكرة الاقتباس، فنجيب محفوظ اقتبس، إنما يجب أن تذكر ذلك لأنه في حد ذاته ليس جريمة، لكن فيلم صاحب المقام هو مصري أصيل، أي تشابهات هي عمل إنساني أنا لم أقل أنني اخترعت دواء، خصوصًا عندما يكون هناك تشابهات في الواقع نفسه"، يقول عيسى.
ويتابع "الفيلم كانت ستخرجه ساندرا نشأت، ولأنها غير مسلمة ورأت أن الحالة الصوفية الإسلامية في النص أكثر من اللازم فاعتذرت عنه، وانشغل عمرو سعد في مشاريع أخرى، وبينما كنت أقوم بدوري كممثل في مسلسل أرض النفاق، تعرفت على المخرج محمد العدل، فحدثته عن صاحب المقام وعرضه هو على المنتج محمد السبكي".
هناك أيضًا جدل حول علاقة عيسى بالصوفية واتهامات بأنه يستغلها لتقديم رسالته ضد السلفية، رجعت هنا لحلقة إبراهيم عيسى عن الصوفية في برنامج مختلف عليه، والتي يطرح فيها علاقة الدين بالسلطة وعدة مفاهيم عن الصوفية من تاريخها، وتعارضها مع السلفية خاصة في التصور السلطوي عن الله، سألته عن علاقته بالصوفية وماذا تعني عنده وعن ورحلة البحث المعايشة التي قام بها قبل كتابة الفيلم وما هي الطريقة الصوفية التي يشير لها في الفيلم.
حلقة مختلف عليه.. الصوفية
"أنا تربيت على حب آل البيت، من منا لم يذهب للحسين ومولد السيدة، من اللحظة الأولى في بيتنا بقويسنا، خالي كان عامل بمصنع كفر الدوار للغزل، ملتحق بطريقة الحامدية الشاذلية، وكان يقيم حلقات الذكر بكل عناصرها من الأناشيد والفتة، وخال أمي في البلد، كان في طريقة ونذهب له في الدوار، كل هذا رأيته وأنا طفل ثم صبي فتربيت عليه، كان عندنا موسم سيدي هلال بقويسنا، بما أن الناس سألت أين هو سيدي هلال الذي يهدم مقامه في الفيلم، فأنا أتيت باسمه من هناك، أبي الأزهري بالمناسبة، عندما كان يزورني بالقاهرة، كان التقليد الذي نفعله هو أن أقود السيارة ونذهب إلى الأولياء، نصلي الظهر اليوم في السيدة والعصر في الحسين ثم السيدة نفسية ونستكمل لعدة أيام، فمصر ازدهرت بهذه الشعائر، قبل أن يغلق السلفيون مساجد بها أضرحة، والأمن يلجأ لمنعها بسببهم"، يشرح عيسى.
ثم يضيف "في السنوات الأخيرة حضرت عدة موالد، لكن باعتباري ضيف شرف، رأيي أن هناك مشكلة كبيرة، عند أعضاء بالحركة الصوفية لا يمارسون الصوفية ويأخذون قشورها فقط، الصوفية التي بها زُهد واستغناء وترفُّع ومحبة، وعلاقة الفرد بالله متجاوزة علاقة القطيع والجماعة والمسؤولية الفردية التي تجنبك التدخل في تدين الآخرين، فإذا كان هناك حارة بها رجل سكير بينما يعود كل يوم سكرانًا، ستجد السلفي يضربه لأجل هدايته، والصوفي يحنو عليه لأجل هدايته أيضًا، وهذا هو الفرق الجوهري، هذا هو التصرف الصوفي بصرف النظر عن التصرف المصري الحقيقي، وأنا هنا ليس بصدد التنظيمات والحركات والجماعات الصوفية وهي متنوعة ومتعددة وبعضها يتصادم مع بعضه، ولكن دعك من طبقة القيادات وما إلى ذلك، أنا أتحدث عن المصريين المتصوفين بالفطرة حتى وإن لم يعلنوا ذلك، ويحترموا أولياء الله الصالحين حتى وإن لم يدافعوا عنها في مواجهة السلفيين".
يضيف عيسى "بخصوص القراءات، لا أكف عن القراءات في التاريخ الإسلامي، وقراءة الفكر الصوفي وأئمة الصوفية كمتعة ومعرفة وإلهام ودراسة، وكل هذا موجود بمكتبتي هنا، رغم إن الفيلم ليس عن ذلك".
عن الصوفية وعلاقة الدين بالسلطة، يشرح "هناك ثلاثة أنواع من التدين، منها الرسمي التابع للمؤسسات الرسمية الأزهر أو جامع القيروان أو هيئة العلماء وما إلى ذلك، وهو طوال الوقت متبني وجهة نظر الدولة، إذا هو ضد إسرائيل، فيقول أنها عدو صهيوني لابد من محاربته، وإذا الدولة تصالح إسرائيل فيقول إن جنحوا للسلم فاجنح لها.
وهناك التدين الغاضب، مثل نموذجي السلفيين والإخوان المسلمين، يعيش على الحكم على الآخرين أنهم كفرة وعصاة، ولابد أن نغير العالم ونسترجع الخلافة الإسلامية، سواء يقول ذلك فقط أو يعلنه بالسلاح.
وهناك التدين الشعبي، علاقة الشعب بالدين مثلما يراها، لا يُغرم بالخطاب الرسمي، لكن يستعين به في قضاء أموره الحياتية مثل الزواج مثلًا، وهو يكره التدين الغاضب أو العنيف، والصوفية واحدة من مفردات التدين الشعبي، والصوفيون مسالمون وليس لديهم جماعات مسلحة وهكذا، فمن يحميهم إذن؟ التدين الرسمي ممثل في الدولة، فتكون العلاقة مع الدولة هادئة متحالفة موالية، لأن الدولة هي التي تحميهم من الهمج الذين ممكن أن يقتلوهم".
يتابع "يتهم البعض الصوفيين بالخضوع للدولة دون أن يسألوا أنفسهم عن سبب ذلك، بالإضافة لكون كثير من الحركات الصوفية في مصر، ورثت الصوفية من زمن التكاية، وهم ناس مسالمة جدًا ودراويش ينزعون أنفسهم من الصراعات الدنيوية التي يبتعدون عن الدخول فيها، وبالتالي لازم الدولة تحميه، إذا قرأت دراسة عمار علي حسن، ستجد دور الصوفيين في المقاومة ومواجهة الإنجليز، والطريقة العزمية التي تخبئ المطبعة التي تكتب المنشورات ضد الإنجليز، وتخبئ السلاح في المقاومة، فهي وطنية أكثر من أي سلفي، من يؤمن بعودة الخلافة الإسلامية، لا يؤمن بالوطنية، والكاتب أو المبدع أو المحلل السياسي، لابد أن يحلل المشهد بكل أبعاده، ولا يتخذ موقفًا منزعجًا أو رافضًا متبعًا منهج السلفيين في الحكم على الآخرين".
وختامًا سألته حول مشاريعه القادمة، فأجاب "هناك مشروع جديد مستوحى من حياة المطربة خضرا محمد خضر واسمه ورق الفل مع مخرج، يخرج أول أفلامه قادم مع عالم الإعلانات والفيديو كليب، أما المشروع الثاني فيمزج بين عالمي الفن والإرهاب والتطرف، وهو مع المنتج أحمد السبكي والمخرج محمد العدل" كما ذكر أنه محظوظ بتعاونه مع مخرجين من أجيال مختلفة يذهبون لعالمه السينمائي.