في غرفة التفاوض الافتراضية عبر الفيديو كونفرانس بسبب جائحة كورونا، جلس ثلاثة مهندسين هيدروليكيين يتولون مناصب وزراء الري في بلدانهم الثلاثة؛ مصر والسودان وإثيوبيا، يتفاوضون متسلحين بالمعرفة الأكاديمية والخبرة الميدانية كما تشير سيرهم الذاتية، على تفاصيل تقنية تتعلق بملء سد النهضة، في تأكيد للدور المحوري الذي يلعبه المهندسون للسيطرة على مياه النيل.
خلال السنوات التي تمكن فيها الإنسان من التحكم في مياه النيل، والتي بدأت منذ عهد محمد علي وتطورت وأخذت شكلها الحالي في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، كان المهندسون فاعلون أساسيون في بسط السيطرة على النهر العظيم، وتطويعه وإخضاعه للسلطة الحاكمة، حتى أن أحد الرحالة وصف مصر إبان فترة الاحتلال الإنجليزي بأنها أرض المهندس[1].
هذه القراءة مهمة جدًا لفهم التحول الهيدروليكي الكبير، فقد استعان المهندسون البريطانيون بتجاربهم في الهند عندما انتقلوا إلى إدارة الري المصرية، واعتمدوا على العلوم الهيدروليكية الحديثة، بمقاييس زمنها، رافضين خبرات ومعارف الفلاحين ومشككين في جدوى ممارسات الري التي ينتهجونها. لكنهم -أي المهندسين البريطانيين- استفادوا أيضًا من ميراث محمد علي، وكما يقول علي شافعي "ولما جاء المهندسون الإنجليز إلى مصر وجدوا تراثًا فنيًّا كبيرًا، بل وجدوا أساس جميع المشروعات مدروسًا"[2].
ولذلك فإن مرحلة الاحتلال كانت مرحلة استكمال لمشروعات الري الكبرى، بالتحول إلى الري الدائم من خلال تجديد قناطر الدلتا 1891، وإنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط 1902، وقناطر زفتى 1902، وقناطر إسنا 1909، وتعلية خزان أسوان 1912 وصولًا إلى التعلية الثانية لخزان اسوان 1933. وبعد الجلاء بُني السد العالي في 1964، والذي يمكن القول بأنه نقل منابع النيل إلى داخل الحدود المصرية في بحيرة ناصر، وهو ما يتم تحجيمه الآن عبر سد النهضة.
عبر هذه الهياكل طور المهندسون نظامًا لمراقبة وضبط سريان المياه يعزز قدراتهم على إدارة النيل والتحكم فيه، حيث مثَّل السد العالي خاتمة لسلسة من الإجراءات التي تهدف إلى تدجين النيل والسيطرة عليه تمامًا. هذا التدجين للنيل أحدث تغيرات في خواص التربة والمياه والتنوع البيولوجي بالإضافة إلى تغيير أساليب الزراعة وممارسات الفلاحين والتحول الكامل إلى الري الدائم والاعتماد بشكل كبير على التسميد الكيماوي لتعويض فقد الطمي الذي كان يأتي مع الفيضان كل عام ليجدد خصوبة التربة إلى حد بعيد.
هكذا إذن فُرِضَت الهيمنة المصرية التاريخية على مياه النيل من خلال استراتيجيات التحكم في موارد المياه حيث استغلت الحكومات المصرية المتعاقبة تفاوت علاقات القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع كل من إثيوبيا والسودان. وأتاحت لنفسها، رغم هشاشة الموقع الجغرافي لمصر كدولة مصب، شكلًا فريدًا للتحكم في المياه من المصب. زد على ذلك الميراث التقني المصري في إدارة الموارد المائية ما انتهى بطبيعة الحال إلى توقيع معاهدتي تقسيم المياه عامي 1929 و 1959 واللتين أنتجتا ما بات يعرف بـ "الحقوق التاريخية لمصر" في مياه النيل وأضفتا الشرعية القانونية على الخطاب الرسمي المصري.
منذ بداية القرن العشرين يسيطر المهندسون ويتحكمون في مياه النيل، ومن هذه الزاوية لا يمثل سد النهضة تحديًا لسيطرة الخبراء الهندسيين على النيل ولكنه يطرح التساؤل حول هويتهم؛ بعد أن كان "المهندس المصري" يرفض أن يشاركه أي مهندس آخر في السيطرة على النيل أصبحت للمهندس الإثيوبي اليد العليا.
ففي الوقت الذي يشترط فيه الجانب المصري مشاركة المهندسين المصريين في متابعة وإدارة السد مع المهندس الإثيوبي، ترفض أديس أبابا وتصر على خضوع السد الجديد لمهندسيها فقط. وهو ما اعتبره الجانب المصري في المفاوضات الأخيرة رغبة إثيوبية في "تخلي (مصر والسودان) عن حقوقهما المائية والاعتراف بحق إثيوبيا في استخدام مياه النيل الأزرق من جانب واحد وملء وتشغيل سد النهضة وفقا لرؤيتها".
هيمنة المهندسين على النيل إذن ليست هي محل الخلاف المنصب على هوية هؤلاء المهندسين، ما يأخذ النقاش بين الدول الثلاث إلى بعدين أولهما فني تقني تم الاتفاق على كافة أبعاده والآخر سياسي مرتبط بهوية المهندسين، وهو محل التعنت الإثيوبي. لكن ألا يمكن التفكير في المسألة بطريقة أكثر شمولية تتجاوز المسائل الفنية والسياسية والهوياتية؟
نحاول هنا اعادة التفكير في النيل كشيء أكبر من أن يحكمه المهندسون والسياسيون لأنه يحمل بين ضفتيه مزيجًا بيئيًا واجتماعيًا وثقافيًا يمثل تناوله كمسألة تقنية وسياسية فقط، تهميشًا واستبعادًا لآلاف البشر والأساطير والحكايات.
خارج الغرف: الحشود المستثارة
تنظر دراسات الايكولوجيا السياسية الحديثة إلى المجرى المائي العابر للحدود والسدود، كظاهرة هيدرو-اجتماعية لا كظاهرة هيدروليكية فقط. فهيمنة نظرة المهندسين حول السد والمياه تهمش الأبعاد الأخرى التي قد تكون بذاتها مدخلًا للحل أو على الأقل لإعادة التفكير في هذا الصراع بطريقة أكثر شمولًا. فالمسألة ليست فنية بحتة أو سياسية محضة، وإنما هي مسألة مركبة تجعل من الضروري تناول الاعتبارات الاجتماعية والبيئية والثقافية للمياه.
إن مفهوم الحق في التنمية والعدالة المائية الذي يردده السياسيون في إثيوبيا ومصر يختزل عادة في مضامينه الكلية؛ أي أنه يتجاهل تمامًا مسائل التوزيع غير المتكافئ للفوائد والأعباء والوصول إلى المياه والتحكم فيها، كما أنه لا يبدو معنيًا بحقوق الأقليات والثقافات المحلية المرتكزة على المياه. فخطاب التنمية والحقوق السائد ياخذ منحىً شعبويًا يعتبر المواطنين كتلة واحدة متجانسة ومحتشدة خلف الصوت الواحد للقيادة.
فعلى سبيل المثال، يستبعد نموذج التنمية الزراعية الذي تروج له حكومات البلاد الثلاثة الفلاحين ويرتكز على نمط الاستغلال الكبير وتصدير المياه عبر منح مساحات شاسعة من الاراضي إلى شركات ودول أجنبية ما يؤثر سلبًا على الجماعات المحلية والفلاحين في البلدان الثلاثة.
ينتظر المستثمرون وتجار الأراضي الدوليون خارج الغرفة مثلهم مثل السياسيين، لا يريدون الخوض في تفاصيل نموذج التنمية أو مفهوم الحق في المياه أو آليات وضمانات التوزيع على المستوى المحلي. في العام الماضي، رصدت قاعدة بيانات موقع مصفوفة الأرض، المعنية بتوثيق عمليات النهب والاستحواذ على الأراضي، حصول المستثمرين الأجانب على مساحة 10.3 مليون هكتار في الـ 11 دولة التي تشكل دول حوض النيل منذ عام 2000, تقع منها حوالي 2.3 مليون هكتار في مصر وإثيوبيا والسودان. فبالفعل يتم تضليل المواطنين ويستخدمون كجماهير مستثارة بدوافع وطنية لا كشركاء في عمليات التوزيع والاستحواذ.
فإذا كانت المياه مطلبًا للتنمية الزراعية والصناعية فإن وثيقة تفاهم منفتحة تتضمن أشكال التكامل الزراعي والربط الكهربائي يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من النقاش. فكما نعلم أن الزراعة هي المستهلك الأكبر للمياه وتستحوذ على حوالي 75 إلى 85% من حجم المياه. إذن استخدامات الفلاحين في البلدان الثلاث يجب أن تكون جزءًا أيضًا من الاتفاق، ففي ظل تنامي ظاهرة الاستحواذ على الأراضي وتصدير المياه، قد يصب كل تجييش شعبوي حول المياه في صالح الشركات المتعددة الجنسيات لا فلاحي بلاد النهر.
خلال مسار الصراع الذي بدأ مع إعلان اثيوبيا عزمها إنشاء السد عام 2011 وحتى النقاشات الأخيرة بمجلس الأمن عام 2020، كان النقاش يتمركز حول شقيه التقني والسياسي. ورغم تقدم الشق التقني وتعثر الشق السياسي إلا أن غياب النقاشات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المرتبطة بناس النهر كان هو الرابط المشترك بين الخطابين المصري والإثيوبي تحديدًا.
ورغم ان السودان لا يظهر كثيرا في السجالات حول السد بحكم اللهجة التصعيدية بين الجانبين المصري والإثيوبي، إلا أن موقعه الجغرافي بين البلدين يجعله شريكًا أساسيًا في الصراع الدائر. يمكن القول إن الثورة السودانية سمحت للسودان أن يلعب دور الوسيط، نظرًا لمساهمة إثيوبيا في مسار المناقشات بين الحكومة الانتقالية وقيادات الجماعات المسلحة حيث توسط رئيس الوزراء الاثيوبي في ذلك، بالإضافة الي التقارب بين القيادات العسكرية بالمجلس السيادي بالسودان مع الرئيس المصري.
لذلك أتصور أنه لم تكن المبادرة الأخيرة التي أطلقها رئيس الوزراء السوداني بإجراء جولة جديدة للمفاوضات، وهي المبادرة التي قبلها الجانبان المصري والإثيوبي، ممكنة في ظل نظام البشير. السودان إذن واقع بين إدارة عسكرية منحازة نوعًا ما إلى مصر ووضع جيو-سياسي تلعب فيه إثيوبيا دورًا مهمًا، دون إغفال مصالحه التي تتقاطع مع الرؤية المصرية المطالبة باتفاق ملزم طويل المدى يراعي مخاوف الجفاف في دولتي المصب، ما جعله في النهاية منحازًا للرؤية المصرية.
أخيرًا أتصور أنه بدلًا من وضع ناس النهر في مواجهة بعضهم البعض عبر الخطابات الشعبوية، قد يشكل الخروج من ضيق التفكير الهيدرولوجي والسياسي للمياه والنظر إليها كنظام اجتماعي بيئي، نقطة انطلاق جديدة لصالح ناس النهر. وهذا يتضمن أن تسعى الشعوب لتحقيق تنمية وعادلة وشاملة ومستدامة وتضامنية. منطلقين من قناعة أن المياه والأراضي ليست سلعًا يمتلكها الأكثر قدرة على الشراء في سوق دولي منزوع الأخلاق، بل حق للفلاحين والصيادين الذين يمكنهم العمل يدًا بيد لتحقيق السيادة الغذائية لدول الحوض، لأن النهر أكبر كثيرا من أن نتركه بين يدي مجموعة من السياسيين والمهندسين.
[1]Steevens، George Warrington. Egypt in 1898. William Blackwood and Sons، 1898.Cited in Cookson-Hills، Claire Jean. Engineering the Nile: Irrigation and the British Empire in Egypt، 1882-1914. Queen's University (Canada)، 2013. P1. The citation : “Egypt is… the land of the engineer… The British engineers in this country are making it – quite literally and visibly and palpably making Egypt. The Barrage is one of the greatest pieces of Egypt-making in the country”
[2] علي شافعي بك، أعمال المنافع العامة الكبرى في عهد محمد علي الكبير، دار المعارف المصرية، 1950، صـ 15.