Nadine Doerle- pixabay
أهرامات الجيزة

لسان المصريين ولسان العرب: من أين جاءت لغة مصر؟

منشور الاثنين 27 يناير 2020

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أسمع العامية المصرية بلسان شامي، لكن ليلى تختلف في تنقالها بين 3 أو 4 لهجات بتلقائية، وتمتلك القدرة على توليد المصطلحات المصرية، كأي مصري أصيل.

تعود أصول ليلى السماوي، 29 عامًا، للعراق، لكنها نشأت في سوريا، واستقر بها المقام أخيرًا في العاصمة الأردنية، عمّان، ما مكّنها لتعرف عدة لهجات بين بلاد الشام والعراق، ثم أضافت إليها مؤخرًا العامية المصرية.

كانت ثورة 25 يناير هي السبب المباشر الذي تعلمت من ورائه ليلى اللهجة المصرية، فعندما كانت تتابع أخبار الثورة، طالما استوقفتها ألفاظ لا تعرفها، أو مصطلح جديد لم تسمعه في الأفلام أو الدراما المصرية من قبل، ويبدو أن ذلك أقنعها أن لغة السينما والدراما المصرية شيء ولغة الشارع في مصر شيء آخر.

تحكي ليلى عن المرات القليلة التي زارت فيها مصر، تقول "أجد أن اللهجة المصرية سلسة مثل المصريين أنفسهم، ومن الأشياء المميزة في العامية أن لديها قدرة على توليد مصطلحات جديدة وتطويعها في اللغة مثل "أفورة/ وسكرته/ وبرنس". لكن بتعصّب من الخلط بين حروف مثل الـ"ذ" والـ"ز" والـ"ظ"، أو الـ"ثاء" والـ"س".

تعتقد ليلى أن توليد المصطلحات وتطور اللغة له علاقة بالجغرافيا، فالمناطق النهرية أو البحرية مثلًا لديها قدرة على توليد مصطلحات جديدة بسبب استعداد سكانها للاندماج مع ثقافات أخرى، فتصبح اللهجة مشابهه لحياتهم الديناميكية. يؤكد هذا الرأي بحث نشرته مجلة كلية التربية بالمنصورة 2010، يقول إن الحراك الاجتماعي السريع يسهم بقدر كبير في استحداث مصطلحات جديدة بين الشباب. وبحث آخر نشرته المجلة الجزائرية للعلوم الأنثروبولوجية عام 2009 بعنوان "اللّهجة بين الحتمية الاجتماعية والاقتضاء العلمي"، رأى أن الحركات الاجتماعية تخلق سّرعة وخفة في التّواصل، وكلّما ارتحلت اللّغة عبر التّاريخ أو تداولتها الأجيال، اختلفت في بناها ومعناها.

 

ترى ليلى السماوي أن العامية المصرية لديها القدرة دائمًا على توليد مصطلحات جديدة وتطويعها في اللغة

موجز تطور العربية

في الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي تطورت العربية في ثلاث اتجاهات مختلفة؛ ظهر التطور الأول لها في لهجات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتطور الثاني كان بظهورها في لغة أقلية، والتطور الثالث كان في شكل هجين لغوي كما ظهر في جنوب السودان وكينيا وأوغندا.

مع بداية القرن العشرين، بدأت تظهر اللهجات الحضرية الحديثة في المدن التي أسسها العرب وظهروا فيها كأغلبية سكانية، مثل الفسطاط في مصر والبصرة والكوفة في العراق، ولم يمر وقت طويل حتى جذبت تلك المدن عددًا كبيرًا من السكان اضطروا لتعلم العربية للحصول على فرص عمل أو فرص للسكن.

كانت اللهجة المصرية، الأكثر انتشارًا من غيرها في البلدان العربية، بسبب وسائل الإعلام التي ظهرت مبكرًا في مصر، خاصة فترة الستينات التي شهدت فوران مشاعر القومية العربية عبر صحف القاهرة وإذاعتها إلى جانب السينما المصرية، بحسب المؤرخ الإنجليزي ذو الأصول اللبنانية، ألبرت حوراني، في كتابه "تاريخ الشعوب العربية".

يتابع حوراني أن بداية الستينات كانت العصر الذهبي للسينما، وهي نفس الفترة التي شهدت ظهور التلفزيون، وكانت الأفلام المنتجة في مصر تعرض بنجاح في أماكن عديدة ساهمت في تعميم اللهجة المصرية العامية. وما حدث مع السينما حدث مع الراديو الذي جعل صوت عبد الناصر وأم كلثوم هما أكثر الأصوات ألفة، وبدأت تحل الموسيقى الشعبية المصرية محل الموسيقى الأندلسية في دول المغرب.

اللغة واللهجة

بينما يحاول باحثون تفكيك مفردات مصرية، وردها إلى أصل عربي، يذهب آخرون إلى أبعد، فيعتبرون العامية المصرية لغة خاصة تطورت من اشتباك القبطية مع العربية الوافدة، ويدعم هذا الرأي وجود ألفاظ لا حصر لها انحدرت من القبطية وما زالت باقية.

يرى الراحل، أحمد رشدي صالح، الباحث في الفلكلور، في كتابه الأدب الشعبي، أن دخول العرب مصر شهد اصطدام العربية بالقبطية، لتتراجع العربية في بادئ الأمر ويقتصر التعامل بها على المعسكرات وعلى المناطق التي استقرت بها القبائل العربية. وحتى عام 706 م كانت القبطية تستعمل باعتبارها اللغة الرسمية لمصر، ويبدو أنها نجت من المواجهة الأولى للعربية، واحتاج الأمر لقرون حتى تتراجع القبطية أمام غول العربية، وكان آخر عمل عظيم كتب بالقبطية، قصيدة طويلة ألفت مطلع عام 1300 باسم "تريادون"، ومع ذلك فقد احتاج المصريون لمائة عام أخرى ليتحدثوا العربية بعد تلك القصيدة، بحسب نيكولاس أوستلر، في كتابه إمبراطوريات الكلمة.

يعد سامي حرك، الباحث في التراث، أحد أكثر المدافعين عن اللغة المصرية باعتبارها لغة خاصة وليست مجرد لهجة، يقول مرت اللغة المصرية بأربع مراحل تغير منذ اللغة المصرية القديمة وحتى الآن بنفس القواعد مع احتفاظها بآلاف الألفاظ، كانت المرحلة الأولى هي الهيروغليفية، ثم اللغة المصرية بالحرف الديموطيقي، ثم بالحرف القبطي المتأثر باليونانية، ثم المرحلة الحالية وهي مرحلة الحرف النبطي أو العربي، ويعتبر أن المصرية الحالية هي لغة كاملة بها شروط اللغة وهي، النحو والصرف، والألفاظ، والأصوات، وهذه الشروط تتصل بشكل مباشر بمراحل تطور اللغة المصرية القديمة، حتى أن تركيب الجمل المصرية الحالي يشبه تركيب الجملة المصرية القديمة.

إلى نفس ما ذهب إليه حرك، وثّق الراحل عصام ستاتي، في كتابه "مقدمة في الفولكلور القبطي" ألفاظًا كثيرة حُرفت من القبطية، وطوعها اللسان المصري للعربية، معتبرًا أنها دلائل أن هذه اللهجة التي نتحدثها هي لغة محضة.

مثلًا، يرى ستاتي أن "بقى" هي اللفظ المحرف من فعل الكينونة القبطي "بي إي"، وكان هذا الفعل "ي إي" يضاف إلى الجملة القبطية لتفيد الاستمرار، أما أداة الاستفهام "مين" فيعتقد أنها حُرفت من "نيم" القبطية، و"إزاي" المحرفة من "إتاي" وكل تلك الألفاظ لهم نفس المعنى والاستعمال في اللغة القبطية، فضلًا عن أن أسماء الإشارة تأتي في اللغة المصرية القديمة بعد الاسم لا قبله، فنقول مثلًا "الكتاب دا" على عكس العربية التي تقول "هذا الكتاب".

إضافة إلى ذلك يقدم ستاتي عدة دلائل تدعم رأيه، منها، أن اللغة المصرية القديمة لم تعرف حروف الـ"ثاء" والـ"ذال" والـ"ظاء"، لذلك فإن المصريين يقلبون الـ"ثاء إلى "تاء" في قولهم "اتنين، تلاجة، تعلب إلخ". والـ"ذ" إلى "د" في قولهم "دهب، ديب"، والـ"ظ" إلى "ض" في قولهم "ضل".

وفي اللهجة الصعيدية القبطية، كان حرف "تشيما" ينطق "جيما" بين الكاف والجيم، مثلما ينطق أهل الصعيد اليوم حرف الـ"ق"، لأن المصرية القديمة لم تعرف حرف القاف، لذلك فلهجة الوجه البحري تنطقها ألفًا، وأحيانًا أقرب إلى الـ"ك"، ولهجة الصعيد الحالية تنطقها أقرب إلى نطق الجيم القاهرية، وهو ما يتوافق مع اللهجات القبطية.

على النقيض يرى جورج سيدهم، وهو أحد المهتمين بتدريس اللغة القبطية بسوهاج، أن المصرية الحالية إحدى لهجات اللغة العربية، إلا أن المصريون صبغوها بلكنة قبطية، إلى جانب الألفاظ المصرية القديمة، كما أن ذلك لا يؤثر على عراقة القبطية في شيء.

يعمل سيدهم، مهندسًا مدنيًا بسوهاج إلى جانب اهتمامه بتدريس وتعليم القبطية مع مجموعة أخرى من أصدقائه الذين ربطوا بين القبطية والهوية المصرية.

يقول "أعتقد أن اللغة القبطية أثرت على نطقنا الحالي للعامية، فمثلما تشعبت اللغة القبطية إلى عدة لهجات محلية، فقد رسمت تلك اللهجات القبطية شكل اللهجات المصرية الحالية"، مثلا "اللهجة القبطية الصعيدية كانت تفخم الحروف، على عكس البحراوية التي كانت ترقق الحروف، وهو ما نجده الآن".

يتابع أن القبطية لم يكن فيها حرف الهمزة، لذا فإن المصريين يحولون الهمزة إلى ياء، مثلًا؛ "عباءة تتحول إلى عباية، السماء تتحول إلى السما أو السمي باللهجة الصعيدية، وهكذا".

 

عن طريق مجموعات فيسبوك استطاع جورج سيدهم ممارسة هوايته بتدريس اللغة القبطية بسوهاج

التحول إلى العربية

بدأت اللغة العربية تنتشر في مصر بشكل أوسع من أي وقت مضى بنهاية القرن العاشر الميلادي، كان لتعريب الدواوين الذي بدأ في القرن الثامن أثره الواضح على تراجع القبطية، إذ كان ينبغي على العاملين في تلك الدواوين تعلم العربية، ثم جاءت مرحلة ترجمة الكتب القبطية إلى العربية التي بلغت ذروتها في القرن الحادي عشر، وبلغت حد الاكتمال نهاية القرن الرابع عشر.

كانت دواوين الخراج، تستخدم لغات البلاد الأصلية، وظل هذا الوضع قائمًا حتى أواخر عهد عبد الملك بن مروان (رحل 705م) الذي قرر تعريب أهم دواوين الدولة، ديوان الخراج، استمرت عملية التعريب بعد رحيله.

ومع ذلك فقد ظلت القبطية باقية في حديث الناس حتى عصر الحاكم بأمر الله (توفى 1021 ميلادية)، الذي أبطل الكلام بها نهائيا، فكان المصريون يتجنبون الحديث بالقبطية أمام الحاكم وعسكره حتى لا يتعرضون لأذاهم، ومن ثم بدأت العربية في الانتشار بشكل أوسع.

سبيستيات ريختر، عالم مصريات بجامعة برلين، أحد أكثر المهتمين بدراسة المفردات اللغوية وتطور اللغة في مصر، يقول إن اللغة القبطية بدأت تضمحل في القرن العاشر الميلادي، وتراجعت في أكثر مجالات الثقافة المكتوبة، وبدأ المصريون يتخلون عنها لصالح العربية.

كان سبب تخلي المصريون عن القبطية، أو على الأقل تعلم العربية، هو حركة التعريب، فضلا عن أن القرنين الثاني عشر والرابع عشر، شهدا حركة ترجمة كبيرة من القبطية إلى العربية، بدءًا من الأعمال الكتابية والبطريركية، إلى ما هو أبعد.

يعتقد ريختر أن ما يميز اللهجة المصرية الحالية، هي أنها وليدة تحول لغوي بطيء، مرت به القبطية لصالح العربية الوافدة حديثًا، ومن ثم اختلطت اللغة الأولى بالثانية، وخرجت لهجة ذات مميزات حصرية، سواء في القواعد أو في الألفاظ والتعبيرات.

يتابع أن عملية التحول تلك كانت طويلة نسبيًا، إذ استمرت نحو 400 عامًا، ما منح العربية فرصة لتنسجم مع المصطلحات القبطية، خاصة في بعض الأشياء والأفكار المصرية الخالصة، مثل مصطلحات الزراعة والمناظر الطبيعية والنباتات والحيوانات، إلخ.

يذكر سامح مقار في كتابه أصل الألفاظ العامية، عدة ألفاظ ذات أصل من المصرية القديمة، منها "بخ" المشتقة من النطق القبطي لكلمة "عفريت"، وبلبوص المحرفة من القبطية "بلبوش" بمعنى عريان، وشلبي المحرف من اللفظ القبطي شلباوي وهو نوع من أنواع السمك.

ومن الأدوات، يذكر مقار الـ"باشكور" وهو أداة سحب الخبز من الفرن وما زال يطلق عليها نفس الاسم في الصعيد، و"طورية" بمعنى فأس المحرفة من اللفظ القبطي "توري"، وماجور بمعنى وعاء، ومشط المحرفة من ماشتوتي القبطية.

هجرات عربية قبل الإسلام وبعده

في رسالة كتبها السيوطي، أحد علماء القرن الرابع عشر (توفى 1505م) حول الألفاظ غير العربية التي دخلت القرآن، اعتقد أن بعض الألفاظ القرآنية لها أصل قبطي، مستدلًا ببعض الألفاظ التي وردت في القرآن مثل "مناص، الآخرة، تحتها، مشط".

 

غلاف رسالة السيوطي

إلى جانب رسالة السيوطي، يمد أحمد مختار عمر، الخط على استقامته، في كتابه "تاريخ اللغة العربية في مصر"، فيقول إن العربية لم تكن غريبة على مصر عندما جاء الإسلام إليها، فقد كان هناك تاريخ طويل يمتد لعدة قرون قبل ظهور الإسلام وربما قبل المسيحية، تقصد فيه وفود القبائل العربية مصر إما للتجارة أو الاستقرار، بل إن عمرو بن العاص نفسه زار مصر بصفته تاجرًا قبل دخولها فاتحًا.

وبحسب مختار، فإن مصر استقبلت هجرات قبائل كهلانية من عرب الجنوب ذات أصول قحطانية، استقرت في الجزء الشمالي الشرقي من مصر، قبل ظهور المسيحية، إلى جانب هجرة قبائل من طيئ التي استقرت في إقليم الشرقية، وكان ذلك قبل ظهور المسيحية.

أيضا قبيلة بلى، التي استوطنت بين القصير وقنا، وكان يعتمد عليهم في نقل التجارة الهندية، وإلى بلى يرجع اسم مركز البلينا بعد تحريفه، وبين عامي 70 إلى 66 ق. م، كان عدد العرب في مصر تضاعف حتى شغلوا المنطقة بين البحر الأحمر وبين النيل، ولعبوا دورًا مهمًا في نقل التجّار بين البحر الأحمر والنيل.

لكن بعض الباحثين يروا أن هجرة العرب إلى مصر قبل الإسلام لأجل التجارة، لم تسمح بمزيد من التقارب الثقافي بين الطرفين، على عكس ما حدث بين العرب وبين الشام أو العراق، فقد كان الأمر في مصر مختلفًا، فلم يكن المصريين يشبهون العرب، وربما كان ذلك سببًا أن عملية التعريب والتحول إلى اللغة العربية كانت أطول.

عقب الفتح الإسلامي، انتشرت القبائل العربية في ربوع مصر على فترات طويلة، وأثروا بشكل مباشر على نشر اللغة، وتشير نهلة أنيس، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، في ورقة بحثية بعنوان "الهجرات العربية إلى مصر وأثرها في اللهجة المصرية"، إلى أن بين عامي 727 إلى 750م نزول وفود في قرى الدلتا من قبائل قيس وبني مضر وبني عامر وبني سليم وهوازن، تبعهم وفود أخرى من تميم والأزد وطئ وحمير في عصر الدولة العباسية.

أما في صعيد مصر، فقد تركزت الهجرات بين عدناني وقحطاني وقرشي، وبني كنانة، وبني الليث، وبطون من غفار، وبني ضميرة، وفي أسوان نزل بنو هلال وبنو عامر، وجهينة، وبطون من بلى، وقبائل من الجعافرة، والطلحيون.

اللهجة المصرية والهجرات العربية

ربما يكون حفني ناصف (1855-1918) هو أول من ربط اللهجة المصرية بهجرات القبائل بهذه الدقة، ورأى أن المنيا ينطقون الـ"ق" مشوبة بالـ"ك" مثلما ينطق بالـ"ج" عوام أهل القاهرة، وإن قريش كانت تنطق القاف خالصة لكن غيرها ينطقها أقرب للكاف، ورأى أن العرب الذين استوطنوا بني سويف وقت الفتح الإسلامي وبعده كانوا قرشيين والذين استوطنوا المنيا كانوا غير قرشيين.

 

غلاف كتاب حفني ناصف

ففي عام 1886، كان حفني ناصف يجلس في أحد الأندية عندما استمع إلى بعض القادمين من المنيا ومن بني سويف يتحاورون، يقول "فتسمعت كلامهم فإذا هم على تقارب ديارهم وتجاور مواطنهم متباعدون في اللهجة متباينون في طريقة الكلام...".

يزيد على ذلك، أحمد تيمور باشا (1871-1930)، في كتابة "اللهجات العربية" أن عدة لهجات عربية تشابهت مع اللكنات المصرية الحالية، فمثلًا قطع الكلام مثل قولهم يا محمد أو دمجه مثل "مشالله" بمعنى ما شاء الله، التي تسمع في بعض لهجات محافظات الدلتا، تتشابه مع لهجة طيئ، ومنها قولهم "يا بلحَكَمْ" بدلًا من "يا أَبا الحكم".

بل إن سيبويه في كتابه ذكر أن كسر أوائل الأفعال المضارعة هي لغة جميع العرب إلا الحجاز، بشرط أن يكون الفعل ماضيه فعل، وألا يبدأ بياء، لكن لسان العرب تجاوز الشرطين وقال إنها لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة العرب إلا الحجاز.

ومثلما يحذف العامة في مصر حرف النون في قولهم مثلًا "من البيت" فينطقونها "مِ البيت"، فقد سمع عن العرب تلك اللهجة في قبائل اليمن، حسبما يذكر لسان العرب، وربما يفسر هذا التشابه ما ذكره القلقشندي من أن بعض القبائل العربية اليمنية استقرت في الصعيد بشكل خاص عقب حركة الفتوحات.

كما أن حرف الجيم وهو أحد الأحرف التي تميز العامية المصرية، يقول عنها إبراهيم أنيس، في كتابه الأصوات اللغوية، "ليس لدينا دليل يوضّح كيف كان ينطق بالجيم بين فصحاء العرب، لأنها تطورت بشكل كبير"، ويطرح الباحث حسام النعيمي، في كتابه أصوات العربية، أن "نطق حرف الجيم المصري كانت جيمًا فصيحة في الأصل، بعد أن تحولت إلى الكاف ثم نطقها الحالي".

لكن النعيمي، لا يستبعد أن تكون الجيم العربية القديمة مثل الجيم المصرية، خاصة أنه لم ينطق أقرب إلى الشين كما في بعض لهجات المغرب والشام، أما قلب القاف همزة، فقد أدّعى أنها من قبيل الإبدال.

نستطيع التمييز بين أكثر من لهجة في العامية المصرية، تتوزع هذه اللهجات جغرافيًا على مناطق بعينها، بل نجد داخل اللهجة الواحدة تنوعًا كبيرًا، ومثلما يستطيع أي مصري التخمين بسهولة المنطقة الجغرافية عبر اللكنة، فإن أهل الصعيد يتقنون ذلك بشكل أكثر دقة، على الرغم من اختلاف اللكنات الصعيدية وتنوع المصطلحات.

مراحل التكوين

في الواقع، لم تصلنا مراجع كافية توضح كيف كان شكل العامية المصرية في القرون الماضية، أو في بداية ظهورها الأول، وكيف تطورت إلى أن وصلت إلينا بشكلها الحالي، فحتى الوثائق كانت تكتب بلغة رسمية، يصعب أن تخبرنا عن لغة الشارع آنذاك، اللهم إلا بعض المراجع التي دُوّنت من دون قصد بعض الجمل العامية، أو التي حاولت تقويم اللسان المصري.

ترى ليزابيث زاك، أستاذ اللغة والثقافة العربية بجامعة أمستردام، في دراستها حول تكوين لغة القاهرة "The making of a capital dialect: Language change in 19th century Cairo" أن اللهجة العامية الحالية تكونت من خليط من عدة لغات وثقافات، لم تنشأ دفعة واحدة لكنها على فترات تاريخية متباعدة، فضلًا عن أن الأقليات الدينية التي وجدت في مصر لم يكن من السهل الوصول إلى لهجاتهم، مثلا اليهود والمسيحيون الذين لم يضطروا لتعلم العربية من أجل قراءة القرآن.

تضيف أن اللهجة الحالية التي نمت شيئًا فشيئًا، لا يمكن أن تخبرنا عن وضع اللغة التي تحدثتها الأقليات المسيحية واليهودية، على الأقل داخل الأديرة والمعابد، أو الجماعات الأخرى كطوائف الحرفيين.

بعيدًا عن كلام زاك، فهناك تعبيرات قديمة ما زالت قائمة فمثلًا التعبير "حط عليه" تجده مذكورًا في كتاب السلوك للمقريزي (توفى 1442)، في قوله "وكان الأمير يكره قاضي القضاة ويحط عليه عند السلطان".

وقد نجد ألفاظا ينقلها ابن إياس في تاريخه مثل قوله عن حوار دار بين المماليك والقاضي عقب توزيع بعض الأراضي عليهم يقول ابن إياس "وقد تضرر الممالك من توزيع القاضي، وقالوا: إيش يكفينا النصف فدان؟ فسبهم القاضي سبًا قبيحًا وقال لهم: يا كلاب يا زرابين، بيّضتم وجوهكم في إيش حتى تستحقوا، وبهدلهم غاية البهدلة".

العامية القديمة

تميزت اللهجة المصرية بالإمالة والترخيم وترقيق بعض الحروف، وهي تشبه إلى حد كبير لهجة عرب الأندلس، التي تكونت هي الأخرى من اختلاط العربية بلغة أجنبية أخرى، وكانت مصر في تلك الفترة قبلة أهل الأندلس والمغاربة، إليها كان يشد الرجال لتحصيل العلم ورواية الحديث والشعر واللغة، أو باعتبارها طريقا للحج.

كان من ضمن أولئك العلماء شيخ نحاة عصره، محمد بن حيان الأندلسي، الذي قدم من الأندلس مارًا على المغرب العربي واستقر به المقام في الإسكندرية ثم في القاهرة وظل بها إلى أن مات عام 1344، وهناك أظهر مؤلفات ابن مالك أحد أبرز علماء النحو وإليه تنسب "ألفية ابن مالك".

ربما يكون ابن حيان الأندلسي، الذي وصلنا من كتاباته النذر اليسير، هو أول من اهتم بتقييد اللهجات، بقصد أو من دون قصد، عندما قرر تدوين أسماء الناس كما يلفظها أهلها من إمالة وترخيم وترقيق، حسبما يذكر الصفدي في "نكت الهيمان".

ويذكر الصفدي أن شيخه ابن حيان كان ينطق القاف قريبة من الكاف مثلما ينطقها الأندلسيين آنذاك، واستكمالًا لهذا القول ذهب باحثون إلى أن نطق حرف القاف في لهجة الصعيد يكون أقرب إلى الكاف عند القرى التي استقر سكانها منذ زمن بعيد، وأقرب إلى الجيم عند القرى التي تعود أصولها إلى قبائل بدوية.

إلى جانب ابن حيان والصفدي، كان الإدفوي (توفى 1347) هو أبرز من وثّق لمشاهير الصعيد في كتابه الطالع السعيد، وفي نفس الكتاب عندما أراد ضبط كلمة أسوان، خص لهجة الأسوانين بقوله "لهم لغة يجعلون الطاء فيها تاء، فيقولون التريق بدلًا من الطريق مثلًا، ويبدلّون الفاء بدل الباء، ويفهم منه أن تلك اللهجة كانت خاصة بأهل ذلك الإقليم على أغلب الظن.

إلى جانب الإدفوي، يمكن أن نلمس شيئًا من شكل اللهجة المصرية فيما يذكره ابن بطلان، أحد أطباء بغداد الذين زاروا مصر، يقول تعليقًا على موقف جمعه بطبيب مصري اسمه ابن رضوان "سألت الطبيب مستخبرًا عن الحمى، فقال بلفظة المصريين: نعم يا سِيِدي، فالمصريون ينطقون لفظة سيدي مخففة" ويبدو أن ابن رضوان كان يقولها لابن بطلان وهو حانق عليه، فقد غضب ابن بطلان وهاجر من مصر إلى أنطاكية وهناك ترهبن في أحد الأديرة وتفرغ للعبادة.

وفي منتصف القرن السادس عشر  عصر المماليك، ظهر كتاب "دفع الإصر عن كلام أهل مصر" لمؤلفه يوسف المغربي، وهو أديب وشاعر ولد في مصر لأسرة تنحدر أصولها من المغرب العربي، انتهى المغربي من كتابه قبل وفاته بأربع سنوات، ليمنحنا مشاهد مميزة للعامية المصرية.

حاول مؤلف كتاب دفع الإصر أن يُرجع الألفاظ المصرية إلى أصل عربي، لكنه من دون قصد، وصف لنا جزءًا كبيرًا من الشكل العام للعامية المصرية خلال تلك الفترة عبر ألفاظ عدة، مثل ألفاظ "أهو" وتستخدم للإشارة، و"أيمتا" بمعنى "متى"، "أُمال" للاستنكار، خبّا بشد الـ"ب" بمعنى "خبأ" وهرا بمعنى الكلام الفاسد.

ومن الألفاظ التي ذكرها المغربي، حوبة بمعنى فاشل أو ضعيف، وهي من ألفاظ اللهجة الصعيدية الحالية، و"يادوب" بنفس معناها الحالي، وربّني أمره يعني صار موضع ريبه، وسندال بمعنى الشيء الصلب، طبطب بنفس المعنى الحالي.

وأيضا زحلفة بمعنى سلحفاة، وفلان سخيف العقل، فلان مشغوف بكذا يعني مهتم، فلان يصدف أي ينظر، صليف بمعنى نظيف، ضفة بمعنى جماعة، فلان طرف يعني قليل الحياء، فلان يرضي بدون الطفيف يعني يرضى بأقل شيء، عترسة يعني شدة، فلان قحف يعني غليظ الطبع، أقرفني حصل أو حصل منه القرف يعني أصابه الغثيان.

لا يمكن أن نذكر باقي الألفاظ. لكن الواضح أن لهجة المصريين آنذاك، كانت خليطًا من الألفاظ العربية الفصيحة، ومن الألفاظ المخففة أو المتأثرة بالقبطية، والملاحظ أن الألفاظ الفصيحة اختفت تمامًا من اللهجة الحالية، لتمنح الألفاظ المخففة والمولودة مساحات أوسع.