من الصعب على من لم يعش سنوات الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات أن يدرك حجم مايكل جاكسون حينها.
في تلك السنوات كانت المسافة بينه وبين رقم اثنين في عالم الموسيقى والترفيه هي نفس المسافة بين الأرض والقمر.. ألبوماته الغنائية حطمت الأرقام القياسية في المبيعات ثم عادت وحطمتها مراتٍ أخرى عديدة بعد ذلك.
لكن مسيرة الابن الثامن لعائلة جاكسون كانت قد بدأت قبل ذلك بربع قرن وتحديدًا في عام 1964 عندما انضم طفلًا لإخوته "جاكي"، "تيتو"، "جيرماين"، و"مارلون" ضمن فريق "جاكسون فايف".
في عام 1971؛ بدأ مسيرته الغنائية المنفردة مع شركة الإنتاج الأسطورية "مو تاون ريكوردز". وخلال تلك السنوات توهجت موهبة مايكل جاكسون وبدأ صعوده القوي إلى قمة المبيعات والتأثير الموسيقي، ويمكن معرفة المزيد عن تلك الفترة في الفيلم الوثائقي الذي أخرجه سبايك لي عام 2016 وحمل اسم Michael Jackson's Journey from Motown to Off the Wall.
اكتساح كل شيء
بحلول الثمانينيات كان مايكل قد غيّر من شكل الفيديو الموسيقي، والذي سيعرف لاحقًا باسم "فيديو كليب"، عندما صور أغاني Beat it وBillie Jean وThriller من ألبوم Thriller الذي صدر عام 1982. كانت تلك الأغاني المصورة ناجحة إلى درجة أنها ساعدت أول قناة تلفزيونية أمريكية مخصصة للأغاني وهي MTV على النجاح بعد عامٍ واحدٍ فقط على إطلاقها.
في عام 1987 اجتاحت أغاني ألبوم BAD المبيعات في كل مكان وصلت إليه. كان ذلك هو أول ألبوم موسيقي يتصدر قوائم الاستماع في خمسة وعشرين بلدًا حول العالم. في عامه الأول؛ بيع من هذا الألبوم 18 مليون نسخة، وبحلول عام 1991 كان ثاني أكثر الألبومات الغنائية مبيعًا في التاريخ، بينما احتفظ بالمرتبة الأولى ألبوم Thriller لمايكل جاكسون أيضًا.
كان تأثير BAD في الموسيقى الأمريكية كبيرًا إلى الدرجة التي تم فيها الاحتفال عام 2012 بمرور ربع قرن على إصداره، وهو ما جعل "سبايك لي" يخصص 123 دقيقة للحديث عن الألبوم وتأثيره في الفيلم الوثائقي BAD 25 عام 2012.
ومع ألبوم Dangerous الصادر 1991 أصبح "ملك البوب" في مكانٍ أسطوري لم يصل إليه أحد من قبل في عالم الموسيقى والترفيه والحفلات الموسيقية خلال القرن العشرين.
جزيرة بيتر بان
بنفس قدر حجم الضوء، كان ظلام الظل حالكًا. وبنفس قدر عبقرية ومكانة مايكل جاكسون الهائلة كمغني وملحن وراقص ومبتكِر في فن التقديم المسرحي وكفنان لديه تأثير هائل على الموسيقى في القرن العشرين؛ بقدر حجم الجانب المظلم من حياته الشخصية.
في الخامس والعشرين من يناير 2019 عرض للمرة الأولى في مهرجان صندانس للأفلام العمل الوثائقي الذي يقدم إلى العالم شهادة الأسترالي ويد روبسن، والأمريكي جيمس سيفتشاك عن تعرضهما للانتهاك والاستغلال الجنسي لسنوات من قبَل مايكل جاكسون خلال مراحل الطفولة المبكرة والمراهقة.
خلال 236 دقيقة يستعرض الفيلم الذي أنتجته HBO الأمريكية والقناة الرابعة البريطانية تفاصيل تعرّف مايكل جاكسون بالطفلين، وكيف نسج علاقة قوية مع أسرتيهما وتركيزه في الحالتين على تمتين العلاقة مع الأم تحديدًا.
ثم ينتقل الفيلم إلى شهادات صعبة ومفصلة عن الممارسات الجنسية التي حدثت بين مايكل جاكسون وكل طفل منهما في مزرعته الشاسعة Neverland، والتي أطلق عليها مايكل هذا الاسم تيمنًا باسم الجزيرة المذكورة في حكايات "بيتر بان"، الصبي الذي لا يكبر أبدًا.
الظلام
يركز الفيلم في شهادات الشخصيتين الرئيسيتين على تفاصيل تطور العلاقة الجنسية المعقدة والمركبة التي سيطر من خلالها مايكل جاكسون على الطفلين كي لا يفتضح أو يتحدثا عنه بسوء. وهي العلاقة التي استطاع من خلالها مايكل أن يستخدم "ويد" و"جيمس" كشاهدي دفاع في التحقيقات التي أجرتها شرطة لوس أنجلوس حول اتهامات بانتهاكات جنسية بحق صبي يبلغ من العمر 13 عامًا واسمه "جوردن تشاندلر".
كما عاد "ويد" ودافع عن مايكل في المحاكمة الجنائية التي أجريت له في مقاطعة سانتا باربارا بكاليفورنيا عام 2005، وتم فيها اتهام مايكل بأربعة عشر اتهامًا من بينها الانتهاك الجنسي بحق صبي عمره 13 عامًا اسمه "جافين أرفيزو".
4 ساعات من "الخوف والقرف"
خلال الساعات الأربعة للفيلم الذي أخرجه "دان ريد"، يخلو الفيلم من أي شهادات خارج نطاق "ويد" وأسرته وزوجته أو "جيمس" وأمه وزوجته. كما لا يحمل الفيلم تعليقًا صوتيًا ويترك مهمة سرد الأحداث للشهادات المطولة التي تذكر تفاصيل دقيقة عن علاقة مايكل جاكسون بالطفلين وتطورها خلال مراحل المراهقة وانقطاعها بعد ظهور أطفال آخرين في حياة مايكل، وصولًا إلى التأثير المدمر لمايكل على حياة "ويد" و"جيمس" بعد انتهاء العلاقة معه، بل وبعد مماته.
كما أن الفيلم المصنوع بإتقان وحرفية سينمائية خالصة، يخلو من أي موسيقى لأغاني مايكل جاكسون، عدا ما ظهر بشكل قصير للغاية من خلال مقاطع أفلام الفيديو المنزلية أو الأرشيفية. ويترك الفيلم مهمة التحكم بإيقاع الأحداث لتسعة عشرة مقطوعة موسيقية وضعها "تشاد هوبسن"، وهو الأمر الذي يمنع تشتيت انتباه المشاهد عن قصص الجانب المظلم من حياة مايكل جاكسون.
لا تسلية.. فقط ألم
مشاهدة الفيلم ليست أمرًا سهلًا أو مسليًا. وما ورد فيه من شهادات صادمة للغاية وتفصيلية بشكلٍ مرعب، جعل ورثة مايكل جاكسون يطلقون حملة إعلامية كبيرة للدفاع عنه. كما رفعوا قضية على HBO تطالب بمائة مليون دولار كتعويض عن انتهاك الشركة لاتفاق قانوني سابق تم توقيعه عام 1992 ويقضي بعدم تشويه صورة "ملك البوب" مقابل الاحتفاظ بحقوق بث حفلين غنائيين له تم تصويرهما في بوخارست ولندن.
تأثير الفيلم لم يقتصر على إغضاب ورثة "ملك البوب" أو محبيه والمدافعين عنه، بل وصل إلى التسبب في إلغاء كل الفعاليات التي كانت مقررة للاحتفال بالذكرى العاشرة لرحيل مايكل جاكسون، بعد أن كان الفيلم قد تسبب في حذف أغاني مايكل جاكسون من الإذاعات الأمريكية والبريطانية الرئيسية، احترامًا لضحايا مايكل من الأطفال وخوفًا من إغضاب مستمعيها أو اتهامها بالتعاطف مع "معتدٍ جنسي على الأطفال".
لست وحدك المُرتبك.. ضحاياه أيضًا؟
الفيلم يثير عددًا من الأسئلة بلا إجابات. أبرزها: وماذا نفعل بإرث فنان بحجم مايكل جاكسون بعد اكتشاف انتهاكاته الجنسية بحق عدد من الأطفال، وهو الذي كان يروج لنفسه باعتباره صديقًا لهم، بل وواحدًا منهم.
هل يمكن الاستماع إلى أغانيه وموسيقاه بعد معرفة بشاعة الانتهاكات التي ارتكبها؟ كيف يمكن الفصل بين الإنجازات والنجاحات الفنية لمايكل وبين جرائمه؟ إنها نفس الأسئلة التي تواجهنا بعد معرفة الجانب المظلم للحياة الشخصية الخاصة بالمبدعين في مجالات الموسيقى والسينما والأدب، والتي تبدو الإجابة عليها أصعب كلما كان المبدع ذا تأثيرٍ هائل وعميق في الثقافة الشعبية.
في حالة مايكل؛ فإن هذا التأثير وصل إلى حد إرباك مشاعر ضحاياه أنفسهم تجاهه.
في الفيلم نشاهد حزنًا عميقًا وصادقًا من ويد على رحيل مايكل، وهو الذي، وفق ويد نفسه، منحه مسيرة مهنية ناجحة كمصمم شهير للرقص الموسيقي في الولايات المتحدة. وفي حالة جيمس فإن هذا الحزن بدا صادقًا عند حديثه عن مايكل، الرمز الأسطوري في عالم الغناء وأيقونة مراهقته والصديق السابق، بنفس قدر الصدق الذي عبر فيه عن آلامه من الآثار المدمرة للانتهاكات التي مارسها مايكل بحقه.
فرصة نادرة للضحايا
النقطة الثانية تتعلق بالسؤال حول مدى صواب إغفال الفيلم شهادات أطراف تعتقد ببراءة مايكل جاكسون أو نقل وجهات نظر أفراد من عائلته أو حتى لمعلقين لديهم قدر من الحياد. ومن يشاهد الفيلم يستنتج أن مخرجه لم يكن يريد عملًا يتعرض لجميع أطراف القصة أو يحكي خلفيات الطفولة الصعبة لمايكل جاكسون، وإنما أراد استغلال فرصة نادرة للاستماع إلى شهادات غير مسبوقة عن جانب آخر من حياة مايكل جاكسون، فشل الناس في معرفته من خلال التحقيقات التي أجريت معه، أو حتى خلال محاكمته عام 2005 بسبب السطوة الهائلة لشعبية مايكل خلال حياته.
النقطة الثالثة التي تثيرها مشاهدة الفيلم هي التأمل في تطابق الحالات المختلفة التي تم فيها اختيار ضحية الانتهاك الجنسي وتمتين العلاقة مع طرف في أسرته، ثم استغلال الضحية عاطفيًا وجنسيًا والسيطرة عليها من أجل الحفاظ على سرية العلاقة، وصولًا إلى قطع العلاقة مع الضحية فور اصطياد ضحية أخرى. لهذا فإن مشاهدة الفيلم أمرٌ ضروري رغم صعوبته.