عبد الحليم حفينة، المنصة
تغيرت ملامح واحة سيوة في واحد من أهم مظاهرها وهي البيوت

غروب الواحة.. هل تغيّرت سيوة التي نحبها؟

منشور الأربعاء 10 أبريل 2024

في منتصف ليلة شتوية، لفَّ السكون المهيب أجواء واحة سيوة، وإن كانت تلك طبيعة المكان وأهله. لكن في جزيرة طغاغين التي تبعد نحو 5 كيلومترات عن الواحة، كانت الأجواء مختلفة؛ احتفل ضيوف الواحة بليلة رأس السنة مع مطرب بدوي يشدو بأغنيات من تراث الصحراء، مصحوبة بموسيقى تقليدية، ورقصات الزجالة السيوية.

هذا المشهد النابض بالحياة، كان فيما مضى يملأ كل أرجاء الواحة، لكنه صار الآن متعة للسائحين فقط. كثيرة هي الأشياء التي تبدّلت في واحة سيوة، وصارت مجرد ذكرى، أو بالأحرى منتجًا سياحيًا يقدم للزوار كجزء من تراث محليّ، لم يعد وثيق الصلة بأصحابه الأصليين، كما كان يومًا.

مثلًا، الغناء التقليدي في حفلات الزفاف بات مُحرمًا، والبيوت المصنوعة من مادة الكرشيف أصبحت سكنًا فندقيًا للسائحين، والكارتّة التي تجرها الحمير حلّ مكانها التوكتوك؛ جملة من التغيرات ضربت الواحة وهويتها خلال العقدين الماضيين، بفعل الحداثة تارة ونفوذ التيارات الدينية المحافظة تارات أخرى، كما يقول بعض السكان المحليين لـ المنصة.

انزواء الفن

واحة سيوة من أعلى قلعة شالي يظهر فيها الجامع العتيق

تقع واحة سيوة في شمال غرب الصحراء الغربية، وتبعد عن القاهرة نحو 740 كيلومترًا. وعلى مرِّ السنوات الطويلة، سكنتها مجموعة من القبائل الأمازيغية، جميعها تعد فرعًا من قبيلة زنتانة الأمازيغية. وبمرور الأيّام، اختلط سكان الواحة من الأمازيغ بالبدو العرب في مصر وليبيا، فضلًا عن دخول عنصر إفريقي في المكون الاجتماعي السيوي في العصور الوسطى.  

تشكَّلت هوية الواحة عبر الزمن من كل هذه الروافد الثقافية، ورغم أن أهل سيوة يميلون إلى المحافظة الاجتماعية، فالفنّ كان دومًا حاضرًا في المناسبات العامة والخاصة، لا سيّما الأعراس. يقول نصر حمزة بالي، وهو سيوي مهتم بتراث الواحة، لـ المنصة "إتمام الزواج كان له طقوس خاصة قديمًا، كانت الاحتفالات تمتد إلى سبعة أيّام".

ويضيف بالي أنّه خلال أيّام الاحتفال، كانت تُعدّ كل تجهيزات الزفاف، مثل جمع الحطب وتكسيره ليستخدم كوقود لطهي الطعام، ثم نحر الذبائح، وصولًا إلى وليمة الزفاف، التي تقدم في الليلة الأخيرة.

وفي نهاية كل ليلة من ليالي الزفاف السبعة، لا بد من حضور فرقة الزجالة، المكوّنة من رجال يؤدون رقصات مصحوبة بالموسيقى التقليدية، وتُؤدّى هذه الرقصات إمّا بشكل فردي، أو جماعي إذ ينتظم الرجال في دائرة، يرقصون حتى مطلع الفجر.

تتشكل فرقة الزجالة من شباب في مطلع العشرينيات وحتى منتصف الثلاثينيات، وكان بين مهامهم أيضًا اصطحاب أهل العريس لتوصيل العطور لبيت العروس، وهي عادة كانت تعرف بـ"العَطورة".

يرصد بالي ضمن التغيرات التي تشهدها الواحة "كان من المستحيل قديمًا إقامة عرس من دون رقصات الزجالة، أمّا الآن فتغيّرت الحال، واختفت من الأعراس التقليدية تمامًا. أصبحت الأعراس تكتسي بمظهر ديني بالأساس؛ يُعقد القران، وينشد الأطفال التواشيح، ويُلقي أحد رجال الدين وعظه".

يربط نصر هذا التحوّل في طقوس الأعراس بانتشار التيار السلفي في ثمانينيات القرن الماضي؛ حيث لاقى ترحيبًا كبيرًا من سكان الواحة، ومن ثمّ بدأ الوعاظ يحثّون الناس على التوقف عن الطقوس القديمة، ولا سيّما فرقة الزجالة في الأعراس.

ورغم ذلك يذكر أنه مؤخرا أُقيم عرس على النمط القديم "وكانت الموسيقى حاضرة فيه إلى جانب رقصات الزجالة"، يتابع مندهشًا "لاقى ذلك إعجابًا وتفاعلًا من الأجيال الشابة، أمّا كبار السن فاستهجنوا هذه المظاهر التي انزوت إلى الهامش، وصارت تقليدًا غير مستحب".

هَجر بيوت الكرشيف

اختفاء رقص الزجالة من سيوة ليس منقطع الصلة عن تغيرات أخرى كهجر البيوت التقليدية المشيدة من الكرشيف؛ حيث تشكل جميعها الصورة الكاملة للتغيّرات التي طالت الواحة.

والكرشيف هو مادة تُصنّع من الملح والرمل الناعم وتخلط بالطين، وتكتسب صلابة عند جفافها تشبه صلابة الأسمنت، وفي البيوت التقليدية تصنع الأبواب والنوافذ من أخشاب شجر الزيتون والنخيل.

ولانحسار البناء التقليدي في سيوة عدة أسباب يشرحها لـ المنصة عماد فريد استشاري العمارة البيئية والتراثية، "يكمن السبب الأول في ضعف التخطيط للامتداد العمراني في سيوة. ما يحدث الآن هو تفتت الأراضي القديمة لمساحات صغيرة، وهو ما يتعارض مع متطلبات البناء التقليدي الذي يتطلب بالأساس مساحات كبيرة".

عادت البيوت التقليدية للظهور مرة أخرى لكنها حكر على السياح

يستطرد فريد "السبب الثاني يرجع إلى أن ثقافة المباني الحكوميّة المشيدة من الخرسانة التي انتشرت في سبعينيات القرن الماضي شكّلت مرجعًا لأهالي الواحة".

ثمّة ملمح ثقافي آخر يشير إليه فريد، إذ ترسخ في أذهان السيويين أن أصحاب البنايات التقليدية أقلّ شأنًا من سواهم، باعتبار أنّ قاطنيها فقراء، لذا بات هجر بيوت الكرشيف ضمن الترقي الاجتماعي.

"اشتدت ثقافة البنايات الأسمنتية في سيوة مطلع الألفية الثانية، مع تحسن المواصلات، وانكسار العزلة عن الواحة، ونشاط السياحة، فضلًا عن زحف القادمين من أهل الوادي والدلتا الذين جاء برفقتهم مقاولو البناء الخرساني" يقول فريد.

كان الطريق الرابط بين سيوة ومدينة مطروح (308 كم) موجودًا منذ النصف الأول من القرن الماضي، لكنه لم يكن ممهدًا بأكمله. وعندما عُبِّد بالكامل في ثمانينيات القرن الماضي، سهّل بدوره تنقل سكان الواحة للتعليم الجامعي والتجارة، كما عزّز من تدفق السياح.

بيوت الكرشيف التقليدية وفي خلفيتها منزل شُيد من الخرسانة

ورغم غزو البنايات الخرسانية واحة سيوة، فإنّ ثمّة توجهًا الآن لتشييد المزيد من البيوت التقليدية من أجل الخدمات السياحية، ليظهر البناء التقليدي مرة أخرى، ولكن حكرًا على السياح.

تفتقد البيوت الخرسانية الخصوصية الاجتماعية والبيئية للواحة، حسب استشاري العمارة البيئية والتراثية، إذ إنها لا تناسب طبيعة المناخ، وتفتقر للتهوية المناسبة التي توفرها البيوت التقليدية، مشيرًا إلى أنّ "الواحة تفقد هويتها"، وهو ما يهدد السياحة التي تمثل جزءًا كبيرًا من مصادر دخل الواحة.

ويتساءل فريد "مَن يمكنه أن يقطع هذه المسافة ليأتي إلى مكان يستطيع أن يجد مثله في محافظات الدلتا أو وادي النيل؟ أغلب من يأتي إلى سيوة يبحث عن مكان له خصوصية ثقافية واجتماعية".

ما جنته يد الحداثة

يوثق عالم المصريات الدكتور أحمد فخري، في كتابه واحة سيوة، وصول أول سيارة إلى الواحة النائية عام 1917، عندما دخلتها سيارات عسكرية إبّان الحرب العالمية الأولى، بعد انسحاب قوات السنوسي. كان أول مظهر لمنتجات الحداثة تشهده الواحة.

يعدّ وصول الحداثة إلى سيوة نقطة تحول جوهرية في هوية الواحة، وتقول الباحثة في مجال الأنثروبولوجيا عزة سليمان شعبان، لـ المنصة "الحداثة أسهمت في ميلاد تطلعات جديدة لدى السكان المحليين، دفعتهم للسعي نحو تغيير نمط حياتهم". 

ويرى المهتمون بتراث سيوة أنها فقدت جزءًا كبيرًا من هدوئها الذي ميّزها عمّا سواها من المناطق السياحية، فعربات التوكتوك أصبحت تجوب الواحة بسرعة وفوضوية؛ بديلًا عن الكارتة التقليدية، التي كانت أحد معالم الواحة.

ترصد عزة "مع كل زيارة لسيوة ترى زيادة في مظاهر الحداثة. إلى جانب التوكتوك، يمكن ملاحظة غزو الأجهزة الإلكترونية". وترى أنّ أحد أهم المتغيرات في المجتمع السيوي، هو هجرة العمالة المحلية إلى السعودية للعمل في مزارع النخيل وصناعة التمور، إذ يعود العمال محملين بالثقافة الصحراوية، "هذه الهجرات عزّزت من الثقافة المحافظة الموجودة بالواحة، مثل الفصل بين الرجال والنساء".

صورة من أعلى معبد آمون في منطقة أغورمي

لا تستبعد عزة تأثير العامل الاقتصادي على تغير العادات، مثل "تقليص أيّام حفلات الأعراس من 7 إلى يومين، وتقليل قيمة المهر"، مؤكدة أن الظروف الاقتصادية أسهمت أيضًا في تغيير شكل المسكن إلى الحجر الجيري بدلاً من الكرشيف التقليدي المكلف. كما أن تأسيس المنزل أصبح يعتمد على المنتجات العصرية بدلًا من الأثاث المصنوع يدويًا".

تقول عزة إن السياحة لعبت دورًا في تغيير تطلعات السكان "بعدما كوّنوا صداقات مع السياح والأجانب المقيمين في سيوة، وبفضل تحسين الطرق والمواصلات، وانتشار السوشيال ميديا أصبح الترويج السياحي للواحة أمرًا يسيرًا، جعل منها منطقة متاحًا الوصول إليها بسهولة، مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود".

وتضيف الباحثة التعليم إلى العوامل الأخرى "حدّ انتشار التعليم من ارتباط الأجيال الجديدة باللغة السيوية مقارنة بالأكبر سنًا، فضلًا عن ضعف تنمية الثقافة المحلية بسبب الاعتماد على اللغة العربية في مناهج التعليم".

في المقابل، ثمّة جهود تُبذل للحفاظ على تراث الواحة، مثل تدشين متحف البيت السيوي بمنحة من الحكومة الكندية، والمنوط به حفظ التراث. لكن يقول سيويون إنّ اللغة الأمازيغية على سبيل المثال غير مكتوبة، وعدم دراستها في المدارس يبددها مع الوقت. 

وتشير أستاذة اللغويات الاجتماعية جامعة بايرويت الألمانية فالنتينا سيريلي، في أطروحة دكتوراه أعدّتها عن اللغة السيوية إلى أنّ "الأمازيغية" انحسرت في سيوة نتيجة اختلاط السكان الأمازيغ بالبدو وبالمهاجرين من الوادي والدلتا. مما أعطى اللغة العربية موقعًا متقدمًا.

تضع كل هذه التحولات الثقافية والتغيرات الديموغرافية هوية واحة سيوة في تحدٍ صعب؛ حيث يأمل المهتمون بتراث الواحة في بذل مزيد من الجهود الرسمية والأهلية؛ لاستعادة سيوة كما كانت يومًا؛ واحة هادئة، لا تفسدها يد الحداثة، أو تشوهها سطوة تيارات دينية محافظة.