كنا في مطلع الشباب، وكنا طلابًا في الجامعة، ولم نكن نموذجيين.
قليلون هم الطلاب الذين أنجزوا مسيرتهم التعليمية الجامعية في إطار وقتها المفترض وبرنامجها المحدد سلفًا، كان الطبيعي أن يتعثر أحدنا فيخفق في مادة أو اثنتين، ولم يكن الداعي لذلك بالضرورة إهمالًا أو تكاسلًا، تجبرك تصاريف الحياة المتعددة أحيانًا على ذلك.
عندما يكون الإخفاق في تلك الحدود، تعبر إلى السنة التالية، وتبقى مدينًا بالمادة أو الاثنتين. أما إذا زاد على ذلك، يصير لزامًا عليك إعادة السنة، وهو ما يسمونه "الرسوب". ولم يكن كلُّ ذلك مدعاة للخجل، أو سببًا للنعت بالفشل، طالما أنك لم تصل إلى حد "استنفاد مرات الرسوب"، الاستنفاد كان هو العار ذاته.
لا أعرفُ قواعد الجامعة حاليًا، لكن في "أيامنا" لم تكن الأمور مفتوحة أو مطلقة، الجامعة تسمح لك بعدد معين من مرات الرسوب، ثم تفقد بعدها فرصة نيل شهادتك الجامعية للأبد، وكان الوصول إلى هذا الحد الأقصى هو الكابوس. من ثم كان لزامًا عليك، مهما كانت الضغوط ومهما كنت مهملًا، ألّا تقترب من ذلك الحد، وإلا... .
السؤال الذي يلح على ذهني في الأيام الأخيرة: متى نعلن أنَّ هذا العالم استنفد مرات رسوبه؟ أظنُّ أن الوقت حان.
ما أراه هو أنَّ أيَّ نظام أو فكرة أو أيديولوجيا، تهدف أولًا وأخيرًا الوصول إلى عالم فعَّال. ليس مثاليًا بالضرورة، لكنَّه فعَّال. لا يحقق العدالة المطلقة، لكنَّه فعَّال. لا تختفي فيه كل مظاهر التغوُّل، لكنَّه فعَّال، والفعالية بالضرورة تتطلب أن يحظى الجميع بقدر من الحماية، ولو بنسب، تكفل له البقاء، وتوفر له فرصًا، ولو محدودة، للمشاركة في البناء، لأنه من دون البقاء والبناء ما معنى الحياة؟
الديمقراطية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومفهوم الدولة وما يترتب عليها من حدود وحقوق، ليست أفكارًا منزلة ولا مقدسة ولا مطلقة، لكننا قبلناها بما أن الجنس البشري لم يصل إلى ما هو أكثر نجاعة وقابلية للتطبيق من أجل تنظيم العلاقات بين البشر، قبلناها وارتضينا بها معيارًا للتقييم، فما تقييمك عزيزي العالم لأدائك وفقًا لهذه المعايير التي وضعتها بنفسك؟
كيف يمكن لملايين البشر، وربما مليارات، أن يكونوا بهذا القدر من الاختلال في المعايير، ولوم الضحية، واستباحة حياة المدنيين، وتجاهل العقاب الجماعي، وقبول الاحتلال، والرضا بحبس شعب كامل، و... و... و... و... أليست هذه هي مفردات قاموسك الذي صدَّرته للجميع وقبلوه؟ كيف ترسب فيه للمرة المائة والألف.
أيُّ عالم تنتظر مع كل هذا الفشل؟
قلتم لنا إن الدول لا تنشأ على أساس ديني، وإن كل شعب له الحق في تقرير مصيره، وإنه "لا تمييز على أساس العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص".
قلتم ذلك ثم سمحتم وشجعتم وتمارسون كافة أشكال الدعم لقيام دولة إسرائيل على خلاف كل ذلك، ثم ممارسة إسرائيل لما يخرقه، مع حجبٍ تامٍ لحقوق الفلسطينيين في ذلك كله، فإذا ما انفجر الفلسطيني يومًا في حدود استطاعته، أو حتى شكا، استدعيتم ما تيسر من القاموس لوصف أفعاله بالإرهاب والتطرف والأصوليةو... و... و... و... أليس ذلك رسوبًا؟
قلتم لنا إن "لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه"، لكل فرد، ثم إنَّ ملايين الأفراد، ليس فردًا أو اثنين أو مائة، ملايين الأفراد يعيشون أغلب أيامهم في حصار، لا طعام لا شراب لا كهرباء لا عمل، ويحدث هذا بشكل ممنهج، وليس قاصرًا على فترات الاشتعال، لكن لا أحد ينبس ببنت شفة لقول إن هذا ضد حقوق الإنسان، فقط تنتفضون عندما يتهدد فرد أو أفراد قليلون من الطرف الآخر، أليس ذلك رسوبًا؟
قلتم لنا إن "لكل فرد حق التمتع بجنسية ما"، ثم تتركون ملايين الأفراد دون دولة يترتب عليها الحصول على الجنسية بحرية، والأعجب هو السماح بأن يكون إصدار جواز السفر الفلسطيني غير واضح المعالم أساسًا، خاضعًا لما تراه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فضلًا عن عدم قدرة حامله على التحرك إلا في حدود، وعليك كمواطن فلسطيني أن تقضي حياتك على هذا النحو، دون أي مطالبة بتعديل الموقف، أليس ذلك رسوبًا؟
قلتم لنا إنه "لكلِّ فرد حقٌّ في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره" وإنه "لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسُّفًا"، ثم تسمحون بأن ينزع الإسرائيلي من الفلسطيني ملكية داره وأرضه، ويبني عليها ما يسمُّونه "المستوطنات"، وسمحتم أن تتمتع هذه المستوطنات بحماية، وإن تعرَّض مستوطن للأذى، فهو ضحية، وصاحب البيت هو الجاني، وسمحتم أن يحدث هذا على مدار العقود، دون أدنى اعتراض، أليس ذلك رسوبًا؟
قلتم وقلتم وقلتم، ثم في كل مرة نرى أنكم ما قلتم إلا أحبارًا على أوراق، أو أصفارًا على شاشة. ربما يكون هذا واضحًا في فلسطين، لكنَّ ذلك الإخفاق امتداد لإخفاقات متتالية ورسوب متكرر في شتى بقاع الأرض: أفغانستان، العراق، شيلي، شرق أوروبا، إفريقيا، حتى استُنفدت مرات الرسوب، أو أوشكت على ذلك، ثم إنك تتفاجأ بعالم يسوده الجنون. أيُّ عالم تنتظر مع كل هذا الفشل؟
ملحوظة: العبارات داخل القبسات من المغفور له "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".