آنسبلاش برخصة المشاع الإبداعي

لأن الأفيال لا تكتب القصائد

منشور الجمعة 26 مايو 2023 - آخر تحديث الجمعة 26 مايو 2023

ألتقي كل أسبوعين بمجموعة من لاعبي الشطرنج من خلفيات متنوعة يجمعنا العيش في مدينة لاس فيجاس، وفي هذا السياق تعرفت على صديق يعمل أستاذًا للكيمياء. وفي آخر لقاء بيننا، وبينما يُضيّق الخناق على قلعتي، حكى لي أنه في نهاية الفصل الدراسي طلب من تلاميذه كتابة ورقة بحثية بشرط الاستعانة بـ Chat GPT/نموذج المحاكاة اللغوي المعروف تجاريًا بالذكاء الاصطناعي/AI.

وفي الدرس التالي، عرضوا عليه أوراق إجاباتهم، وكانت المفاجأة؛ ولا إجابة تشبه الأخرى.

"كش مات" قالها قافزًا بالحصان خانقًا ملكتي، بينما كنت مشغولًا بتحصين القلعة، ثم وهو يهد الدور وبينما نعيد صف القطع، أضاف "وبذلك رأوا تطبيق عملي لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي وما لا يمكنه تحقيقه".

سين وجيم

نماذج المحاكاة اللغوية هي شكل من أشكال الـAI، وأطلقت شركة OpenAI العام الماضي نماذج تطبيقية عدة منها ما يعمل على إنتاج الصور، ومنها ما يعمل على إنتاج النصوص مثل ChatGPT. صاحب الإطلاق واحدة من أقوى حملات الدعاية، وكأن الـAI اكتشاف حديث.

في حوار مع شات ChatGPT4 قال لي شارحًا طريقة عمله:

"حين تطرح سؤالًا، أقوم بإنشاء ردود بناء على الأنماط والمعلومات الواردة في البيانات التي تدربت عليها. ليس لدي القدرة على الوصول إلى البيانات الشخصية أو استردادها ما لم تتم مشاركتها معي في سياق محادثتنا. أنا مصمم لاحترام خصوصية المستخدم وسريته.

بينما أسعى جاهدًا لتحقيق الدقة، ليس لدي القدرة على التحقق من المعلومات، أو مما إذا كانت محدثة، لذلك أوصي دائمًا بالتشاور مع خبير بشري أو إجراء مزيد من البحث عند الضرورة"*.

الحقيقة إذًا ليست مجال عمل GPT، بل محاكاة التواصل اللغوي البشري. لذلك في ذات الحوار أخبرني "لا يمكنني لعب الشطرنج، لكن يمكنني شرح الاستراتيجيات وكيفية تطوير أداءك".

في عيد ميلاده الـ 42

ظهر الطيف الأول لتكنولوجيا الـAI قبل اختراع الكمبيوتر، في كتاب في أساسيات التعليم، المنشور عام 1932 لعالم النفس والأعصاب الأمريكي إدوارد ثورندايك، الذي اقترح تزامن عملية التعليم مع تطور نقاط وشبكات الاتصال بين الخلايا العصبية في المخ. بمعنى أن الطريقة التي تنمو بها مهاراتنا ومعرفتنا، تترافق مع تغير خريطة أدمغتنا واتصال الخلايا العصبية ببعضها البعض. وهو ما تأكد بالتجارب المعملية بعد ذلك.

لكن على الجانب الآخر من المحيط، في المملكة المتحدة، نشر آلان تورينج عالم الرياضيات البريطاني عام 1934 تصور نظري لآلة بإمكانها أن تقرأ/تمسح الرموز، ثم تحفظها في ذاكرة وتكتبها، دون توجيه من الإنسان.

لن تجد أفكار تورينج النظرية مكانًا لتطبيقها إلا مع اشتعال الحرب العالمية الثانية. وقتها كان الألمان يستخدمون آلة معقدة لتشفير رسائلهم الحربية تدعى "إنيجما". وطوال سنوات الحرب سيعمل تورينج في مكتب فك الشفرات البريطاني/الكوخ 8، مع فريقه، على تصميم آلة بإمكانها فك شفرات "إنيجما". وهذه الآلة ستكون النموذج الأولي لجهاز الكمبيوتر.

كتب تورينج ونشر عشرات الأوراق حول تصوره لآفاق تطوير الكومبيوتر، ومنها ورقة اقترح فيها "الشطرنج" كلعبة لتدريبه على إعادة برمجة نفسه للتعامل مع تغيرات الواقع المستمرة. وفي عام 1997 تمكن نموذج Deep Blue من الفوز على كاسباروف، بطل العالم في الشطرنج.

أُعلن حينها أن الذكاء الاصطناعي قد تحقق والمستقبل له، وأن الشطرنج كلعبة ستختفي، وشهدنا موجة دعاية وصياح جنوني مثل تلك الموجودة حاليًا. الوحيد الذي قلل من شأن ذلك الفوز كان عالم اللغويات نعوم تشومسكي، الذي شبّه فوز الشطرنج على كاسباورف، بأنه مثل إعطائنا الميدالية الذهبية لونش في مسابقة لرفع الأثقال.

لكن لم يشهد تورينج كل هذه القفزات. أُلقي القبض عليه عام 1951 بتهمة المثلية الجنسية. ورغم أنه بطل حرب، وأستاذ رياضيات، والأب الروحي للكمبيوتر، فقد حُكم عليه بالإخصاء الكيميائي، وحُقن على مدار سنوات بخليط من المواد الطبية لمنع جسمه من إنتاج هرمون التستوستيرون.

انتحر تورينج في يوم عيد ميلاده الثاني والأربعين عام 1954، لنخسر واحدًا من ألمع عقول القرن العشرين بسبب التوحش المجنون لرهاب المثلية الجنسية.

من اللاربحية إلى الرأسمالية

لم تظهر نماذج الـAI الأولى إلا في الخمسينيات، حين بدأ علماء الكمبيوتر في تصميم أجهزة تحاكي تصميم الشبكات العصبية في المخ. يتكون جهاز الكمبيوتر، كما درس أغلبنا في دورة رخصة قيادة الحاسب الآلي، من وحدات إدخال -> وحدة معالجة -> وحدات إخراج.

في نماذج الـAI تتحول وحدة المعالجة إلى نقاط معالجة متصلة مع بعضها في شبكة عصبية، ثم وحدات إخراج.

أعرف أن هذا التوصيف غير دقيق، فليسامحني المتخصصون، فالكثير من المصطلحات التقنية والشروح الأساسية للـAI لم تترجم إلى العربية، حتى أننا مختلفون: هل هو الذكاء الصناعي أم الاصطناعي؟

تأسست OpenAI كمؤسسة غير ربحية عن طريق مجموعة من الأثرياء، جميعهم يحملون الجنسية الأمريكية، لكن أصولهم تعود إلى جنوب إفريقيا، وألمانيا، وكندا، أو إسرائيل. أبرزهم إيلون ماسك، وسام آلتمان، وجريج بروكمان المدير التقني للشركة حتى الآن.

جمعت المؤسسة وقت تأسيسها تبرعات بقيمة مليار دولار بغرض تأسيس مختبر للـAI، يعمل بعيدًا عن ضغوط تحقيق الأرباح وأجندات الشركات التجارية. النموذج غير الربحي جعل المعمل قادرًا على جذب أهم الخبراء الذين رأوا فيه بيئة حرة تعني بالبحث العلمي أكثر من إرضاء المستثمرين.   

وبعد أربع سنوات من تأسيسها تحولت إلى شركة ربحية. ردد المؤسسيين تبريرات مختلفة لهذا التحول، لكن الحقائق تظل أنهم عملوا لأربع سنوات بدون دفع ضرائب، مستخدمين بيانات مفتوحة المصادر، أو بيانات شاركتها معهم مؤسسات أخرى لدعم المشروع.

بعد تحولهم لشركة تجارية ستطلق الشركة النسخة الأولى من ChatGPT في 2020.

ليس بعدد الخلايا

يعتبر ChatGPT هو أكبر شبكة أعصاب اصطناعية/artificial neural network معلنة، بحوالي 175 مليار معلمة/parameters، بينما يحتوي مخ الإنسان على 100 مليار خلية عصبية. لكن مرة أخرى، ليس بعدد الخلايا أو الـparameters يكون الذكاء، بل بنقاط التقاء وتشابك الخلايا العصبية/المعلمات.

ورغم معرفتنا لتركيب الخلايا العصبية في المخ، نظل غير قادرين على خلق شبكة أعصاب اصطناعية بمستوى التعقيد الموجود حتى في مخ الدودة، الذي يحتوي على 300 خلية عصبية.

ومع ذلك، فمع إطلاق النسخة الأخيرة من ChatGPT 3.5، وإتاحة خدمات AI أخرى، كتوليف الصور والأفلام والأصوات؛ صاحب الحماس للألعاب الجديدة إعادة تدوير المخاوف القديمة التي تظهر مع ميلاد كل تكنولوجيا. فمنذ ثورة الطاقة البخارية، يظهر رجال الصناعة وهم يتحدثون بقلق عن الثورة الكهربائية التي ستفقد الناس وظائفهم. على اعتبار أننا لا نفقدها بالفعل، بفعل السياسات الاقتصادية الفاشلة لزمن الليبرالية الكسيحة. 

لا نريد وظائف استعبادية دون مساواة أو حقوق، بل نريد ثمن منتجاتنا الفنية والأدبية وبياناتنا وأرشيفنا الشخصي على الإنترنت الذي سُرق واستخدم لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي.

حين سألت ChatGBT4 عن "الداتا" العربية التي تم تدريبه عليها، قال إنه لا يمكنه الإفصاح عن مصادر تدريبه، لكنه مع ذلك قادر على كتابة قصيدة عن الوطن والأرض بأسلوب عبد الرحمن الأبنودي، وتغييرها لأسلوب فؤاد حداد إن طلبت منه ذلك.

يعني ذلك أنه جرى تدريبه على قصائد الاثنين، فهل تم هذا بإذن من الورثة، هل دفعت أو ستدفع شركة OpenAI لكل الباحثين والكتاب والفنانين الذين استخدمت أعمالهم لأغراض تجارية جعلت قيمة شركتهم تصل إلى 30 مليار دولار؟

هل ستدفع لنا جوجل أو فيسبوك يومًا ما مقابل استخدام بياناتنا لتدريب نماذج الذكاء الصناعي السرية التي يطورونها؟ لقد حولونا لموظفين لدى برامجهم، نمدهم بالمعلومات ويتدربون علينا، دون أن يدفعوا لنا، بل صرنا نحن من يدفع لهم.

الجنرال GPT

هناك سحابة من الغبار والتشويش تصاحب النقاش حول الـAI، فمع كل تكنولوجيا جديدة سواء كانت ماكينة غزل بخارية في مانشستر في القرن التاسع عشر، أو computer server في كاليفورنيا في القرن الحادي والعشرين، تُنزع وظائف قديمة وتُخلق وظائف جديدة.

دفعت الطاقة البخارية الفلاحين المستعبدين من الإقطاع إلى التحول لعمال، والعمل مع الماكينات تطلب إتقان العمال للقراءة والكتابة، وتطور الآلة حول العمال لمهندسين. لكن لماذا لا يحل الـAI محل المدير التنفيذي للشركة طالما كان قادرًا على اتخاذ القرارات بدقة عالية؟ لماذا لا يتحدث أحد عن قدرة الـAI على أن يحل محل جنرال الجيش أو رجل الدين، أو السياسي؟ ولماذا يُترك مستقبل التكنولوجيا ليحدده الثلاثة؟

لا تمل المجموعة المؤسسة لـOpenAI من تكرار أن هدفهم في الحياة هو "إنقاذ كوكب الأرض"، بينما هم بدورهم موظفين عند حَملة الأسهم هدفهم تحويل كل مليون دولار يوضع في الشركة إلى مليار.

رودني بروكس، عالم الروبوتات ومؤسس شركة iRobot التي تنتج روبوتات يمكنها مسح وتنظيف المنزل أو تفكيك القنابل والمتفجرات، قلل في حوار أجري معه مؤخرًا من شأن النماذج اللغوية عمومًا، ونبه لخطر الانجراف وراء شعارات حملات الدعاية الحالية، قائلًا "لنتذكر منذ سبع سنوات تنبأ أحدهم بأن وظيفة خبراء الأشعة والتحاليل ستختفي بسبب الذكاء الاصطناعي فانصرف الناس عن هذا التخصص، والآن نعانى من نقص حاد في خبراء الأشعة والتحاليل. ومنذ سبع سنوات قيل لنا السيارات ذاتية القيادة قادمة، ومهنة سائقي الشاحنات ستختفي، أين كل ذلك الآن؟!".

يرى بروكس أن ChatGPT قادر على محاكاة الأداء الذكي، لكنه ليس ذكيًا. وأننا كثيرًا نخلط بين الأداء والكفاءة.

في عام 1990 نشر بروكس، ورقة بحثية بعنوان الأفيال لا تلعب الشطرنج، تعليقًا على اتجاه باحثي الـAI لتصميم نماذج تلعب الشطرنج. وأوضح فيها أن دماغ الفيل تحتوي على 257 مليار خلية عصبية تمكنها من القيام بعدد من الأنشطة، كالتكيف مع الطبيعة، والاستشعار عن بعد، ورسم خرائط لحركتها تمتد لآلاف الأميال حتى لا تتوه في الغابات. لكن الأفيال لا يمكنها القيام بأي من الأنشطة المعقدة التي يقوم بها الإنسان، كلعب الشطرنج، رغم أنها كائنات ذكية.

لتطوير ذكاء صناعي لا يكتفي بالمحاكاة لكن يتميز بالكفاءة، يجادل بروكس أن السبيل الوحيد لخلق ذكاء صناعي حقيقي يجب أن يكون عبر نموذج يقترن فيه التفكير الرمزي بالحسي والحركي، وليس بحبسه داخل خوادم الحاسبات.

فالذكاء في النهاية هو القدرة على التكييف وتسخير الطبيعة والتفاعل معها، وليس إعطاء إجابات نظرية "تبدو" صحيحة. يحاجى بروكس أيضًا بأن نماذج المحاكاة اللغوية يستحيل أن تصل بالـAI إلى مرتبة التفكير المجرد.

بين عالمين

أثناء تصفحي الإنترنت لقراءة مصادر مختلفة لكتابة هذا المقال، ظهر لي على فيسبوك بوست لإبراهيم جمال الدين، يشكو فيه من توحش سماسرة البيانات في مصر، حيث وصل الأمر أن هناك صفحات على فيسبوك تعلن عن بيعها بيانات المواطنين لشركات التسويق العقاري والإعلاني ولأي أغراض أخرى.

ورغم أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لعام 2018 الذي أقرته مصر ينص على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين، وغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه لمرتكبي هذه الجرائم، ورغم أن البرلمان المصري أصدر في 2020 قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020، فإن الأخير لم يدخل حيز النفاذ لتعطل صدور لائحته التنفيذية، وبالتبعية لم يتم تشكيل الهيئة المعنية بالرقابة والتفتيش على عملية جمع وحفظ ومعالجة البيانات. 

والنتيجة انتهاك خصوصية الملايين الذين يتلقون كل يوم اتصالات من مندوبى المبيعات، ناهيك عن بيع البيانات في العالم السفلي للإنترنت. تاريخ ميلادك، عنوانك، النادي الذي يذهب إليه أولادك، أرقام تليفونك، اسم زوجتك، وربما صورة بطاقتك الشخصية، كل هذا وأكثر يمكن لأي شخص أن يشتريه بمبلغ زهيد جدًا.

نعرف مثلًا كما أخبرنا الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن مصر أصبح لديها بمشروع "عقل مصر" مجموعة من قواعد البيانات الضخمة المدفونة تحت الأرض في العاصمة الإدارية الجديدة. لكن لم يخبرنا أحد ما طبيعة هذه الداتا وكيف جرى جمعها، ومستوى تأمينها. والأهم، عدم وجود قوانين تنظم أو تمنع بيعها أو تأجيرها من قبل أي شركة أو استغلالها لتدريب أي نموذج ذكاء اصطناعي.

تقع بلادنا في المنتصف بين عالمين؛ عالم ديموقراطي غربي حيث قوانين الخصوصية والملكية الفكرية أساس الممارسة السياسية وتعيق توحش تلك الشركات، ومنها أمريكا حيث بدأ الفنانون واتحادات الكتاب في مقاضاة شركات الـAI ومطالبتها بدفع حقوق الاستغلال التجاري لأعمالهم، وبين عالم شرقي حيث الاستبداد القوي في الصين، كدولة مركزية تحتكر تطوير أنظمة البيانات والـAI لصالح سباق سياسي وتقني مع القوى الغربية.

أما نحن البؤساء، ففي المنتصف، لا قوانين تحمي بياناتنا، ولا أنظمة قادرة على بناء بنية تكنولوجية تواكب التطور السريع القادم نحونا. نحن سنكون الطعام الرخيص لبرمجيات الذكاء الاصطناعي.


*هذه الفقرات مقتطعه من حديث مع ChatGPT4

**اعتمد كاتب النص نموذج المحاكاة اللغوى في ترجمة وتحرير عدد من الفقرات