تصوير: رافي شاكر
صورة أرشيفية لبائع خضراوات

لماذا لم ولن يفلح رفع الفائدة في احتواء التضخم؟

منشور الأربعاء 29 مارس 2023

هناك شبه إجماع في أوساط السياسة والاقتصاد والبيزنس على ضرورة الحفاظ على معدلات الفائدة عند مستويات مرتفعة، وخفض قيمة الجنيه أمام الدولار بما يتماشى مع المستويات التي تتداولها السوق الموازية في الوقت الراهن.

تدعم تلك الرؤية عدة مشاهد، من بينها إعلان الفيدرالي الأمريكي عزمه على مواصلة رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، حيث تقود الولايات المتحدة العالم أجمع في ذلك السباق نحو معدلات فائدة عالية، يتبعها في ذلك البنوك المركزية في الدول الكبرى مثل البنك المركزي الأوروبي.

ويساهم هذا التوجه الأمريكي-الأوروبي في دفع الدول التي لا تتمتع عملاتها المحلية بميزة التداول دوليًا مثل الدولار أو اليورو، نحو مخاطر التذبذب العنيف لعملاتها المحلية في أسواق الصرف العالمية، وهو ما يؤدي بالتبعية لارتفاع شديد في التضخم بهذه البلدان، وتشجيع بنوكها المركزية على الدخول في سباق نحو تبني أعلى سعر فائدة ممكن.

وبين كل توصية تصدر هذه الأيام بخفض جديد للجنيه أو رفع جديد في أسعار الفائدة، يطرح رجل الشارع في مصر سؤالان منطقيان: متى تنتهي هذه الدائرة المفرغة؟ وهل كانت مجدية حتى ننساق فيها بهذا الشكل؟

الأصول النظرية لسياسات "المركزي" 

ترجع محاولات استهداف التضخم عن طريق الفائدة إلى توصيات مدرسة شهيرة في الاقتصاد تسمى المدرسة النقدية، والتي قدم من خلالها الاقتصادي الأمريكي الشهير، ميلتون فريدمان، تصورات عن أن العلاقة بين الأسعار والمعروض النقدي هي علاقة سببية بالأساس.. تحتاج هذه العبارة إلى القليل من الإيضاح.

يحتاج المتعاملون في الأسواق، مشترون أو بائعون، إلى معروض نقدي، أي سيولة مالية، يتساوي مع قيمة السلع والخدمات المتبادلة في الاقتصاد، أي الناتج الإجمالي. على أساس هذا التصور، رأى فريدمان أن أي زيادة في كمية النقود المتاحة عن قيمة الناتج الإجمالي ستدفع حتمًا لارتفاع مستوى الأسعار (التضخم)، لأن في هذه الحالة ستكون لدينا أموال كثيرة تتكالب على شراء سلع قليلة.

ومن هذا المنطلق ردد فريدمان عبارته الشهيرة "التضخم ظاهرة نقدية دائمًا وفي كل مكان". وشجع على معالجة مشكلات التضخم عبر أدوات السياسة النقدية، ومن أهمها سعر الفائدة الذي إذا ارتفع سيشجع حائزي النقود على الادخار، ومن ثم سيمتص السيولة الزائدة.

رفع أسعار الفائدة هي سياسة معادية للعدالة الاجتماعية، فهي تسهم في زيادة ثروات الأقلية الغنية

يبدو كلام فريدمان بديهيًا للوهلة الأولى، لكنه لايخلو من انحيازات سياسية واضحة، نستطيع أن نتبين ذلك من خلال النظر للسياق التاريخي الذي نشأ فيه خطابه.

كان صعود نجم فريدمان بين عقدي الخمسينيات والثمانينيات، وهي الفترة التي تصاعدت فيها الانتقادات للسياسات الكينزية التي تدعو لتوسع الدولة في الإنفاق العام، واعتبرها فريدمان وآخرون سببًا أساسيًا في أزمة الركود التضخمي التي سيطرت على أوروبا خلال السبعينيات.

لذلك جاءت تصورات فريدمان مدفوعة بالرغبة في خفض دور الدولة في الاقتصاد، الذي تعاظم كثيرًا على يد كينز، وجعل السياسة النقدية هي القائد لحل الأزمات، وأدى انسحاب الدولة على إثر هذه النصائح لفتح الباب لسياسات عكس الكينزية، مثل التقشف أو الخصخصة.

أغفل تصور فريدمان الكثير من الأمور، منها مثلًا أن شخصًا ما ينفق معظم دخله على السلع الأساسية لن يفكر في الادخار مهما ارتفعت أسعار الفائدة على الودائع.

وقدمت نظريات ما بعد الكينزية الكثير من النقد لأطروحات فريدمان، بل وبلورت تصورًا عن أن رفع أسعار الفائدة هي سياسة معادية للعدالة الاجتماعية، فهي تسهم في زيادة ثروات الأقلية الغنية، التي تستثمر في الأوراق المالية ذات العائد الثابت، على حساب الأقل دخلًا ممن يعانون من تأثيرات مباشرة مثل ارتفاع تكاليف القروض الاستهلاكية، أو غير مباشرة مثل تراجع فرص العمل المتاحة.

التضخم ظاهرة معقدة

لكن تصورات النقديين عن قيادة سياسة الفائدة للاقتصاد تظل هي المهيمنة على العالم في الوقت الراهن، خاصة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

وتستمر هذه الهيمنة على الرغم من أن سياسة التحكم في التضخم عن طريق الفائدة لم تحقق أهدافها، المثال الأبرز على ذلك هو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي رفع الفائدة منذ 2022 بأكثر من 4% ومع ذلك بلغ معدل التضخم السنوي في فبراير/شباط الماضي 6% بينما مستهدف الفيدرالي للتضخم عند 2%.

وفي مصر أيضًا استهدف المركزي معدلات تضخم بمتوسط 7% خلال الربع الرابع من 2022، بينما ظل التضخم أعلى من ذلك بكثير خلال تلك الفترة. وعلى الرغم من رفع سعر الفائدة بـ 8% منذ مارس/آذار 2022، لا يزال التضخم متجهًا لأعلى حيث وصل إلى 30% في فبراير الماضي.

يدعونا ذلك إلى التمهل بشأن تصورات فريدمان، إذ يبدو واقع التضخم أمرا بالغ التعقيد عن تلك الصورة المبسطة التي قدمها لنا الاقتصادي الأمريكي.

في ضوء الأزمة العالمية الحالية، يصعب جدًا الحديث عن استقلالية البنوك المركزية

يصعب تقديم تحليل واف في مقالة واحدة لأسباب ظاهرة التضخم الحالية سواء عالميًا أو محليًا. ولكن هناك خطوط عريضة متفق عليها. أولها أن التضخم الحالي يقوده العرض وليس الطلب، أي أننا أمام زيادة أسعار ناتجة عن نقص المعروض، وهي الأزمة التي فاقمت منها الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيرها على سلاسل الطلب العالمية.

ثانيًا، فإن التضخم الحالي في بلد مثل مصر يأتي مدفوعًا بـ"التضخم المستورد"، أي ارتفاع أسعار السلع العالمية المستوردة، وأهمها الطاقة والغذاء. وهي سلع أساسية يصعب أيضًا تخيل انخفاض الطلب عليها دون الوقوع في دوائر الفقر وتحت حدود الكفاف.

هل ينفخ البنك المركزي في قربة مقطوعة؟

على الرغم من كل تلك المقدمات، فإن رفع الفائدة في مصر يبدو ضرورة، فالبنك المركزي يتبناه بالأساس لحماية العملة المحلية.

وهو اضطرار تشترك فيه مصر مع معظم الدول التي تعاني من عجوزات في موازينها التجارية. فمثل تلك الدول عليها أن تعوض ذلك العجز بجذب رؤوس الأموال الأجنبية عن طريق طرح سعر فائدة مرتفع على أدوات الدين المقومة بالعملة المحلية.

وسعر الفائدة الكافي لجذب تلك الأموال يحدده كلٌ من سعر الفائدة بالدول الكبرى، صاحبة العملات المتداولة عالميًا، المرتفع حاليًا بالفعل. ويضاف عليه ما يعوض المستثمر عن مخاطر الإفلاس المحلي، والتي تزداد في ظل الأزمات العالمية، وهو أيضًا معدل تقوم بحسابه مؤسسات تمويل دولية.

في ظل فترات انخفاض الفائدة في الدول الكبرى، قد تنجح استراتيجية الإبقاء على معدلات فائدة محلية مرتفعة في الحفاظ على مخزون العملة الأجنبية. ولكن من المؤكد أن عدم رفع الفائدة بالقدر الكافي يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية، وبذلك تقع أزمات العملة كما حدث بالفعل في مصر، خاصة في ظل ارتفاع الفائدة عالميًا.

وبالتالي، وفي ضوء الأزمة العالمية الحالية، يصعب جدًا الحديث عن استقلالية البنوك المركزية في إدارة سياساتها النقدية وقدرتها على استهداف التضخم من خلال أدوات غير مجدية، حتى في ظروف اقتصادية أقل توحشًا.

كيف ومتى نخرج من الدوامة؟

حتى نتصور نهاية الأزمة الحالية علينا أيضًا أن نتصور انفراجة في الأزمات العالمية الاقتصادية والسياسية. ولكن على صعيد التعامل المحلي مع الأزمة، هناك نوعين من السياسات اللازمة من الممكن التفكير بهما.

الأول هو سياسات قصيرة المدى تهدف إلى احتواء أعراض الأزمة، أهمها النزيف المستمر للقوة الشرائية لدى المواطن المصري، متمثلة في دعم التكلفة في السلع الأساسية، ولو مؤقتًا، حتى يستقر المشهد العالمي وأسعار الطاقة والغذاء على الأخص.

تلك السياسات حيوية ومكملة لرفع الفائدة، واستخدمتها دول الاتحاد الأوروبي بقوة. فعلى سبيل المثال، قامت الحكومة الألمانية بتخصيص 200 مليار يورو لدعم استهلاك الغاز الطبيعي فقط، سواء للمستهلكين أو المنتجين. وبينما تتناقض تلك السياسات مع توجهات الاتحاد في الانتقال إلى الطاقة الخضراء، فللحكومة أولويات أخرى، وهي قلب الأزمة.

النوع الثاني هو سياسات هيكلية طويلة الأمد. فالقدرة الشرائية، وهي مؤشر أفضل من التضخم في تحديد مستوى المعيشة، تتحدد بقدر المتاح من سلع وخدمات في الأسواق، أي ما يتم انتاجه في الاقتصاد المحلي. في الحالة المصرية، نقرأ يوميًا في الصحف والأخبار تفاصيل عن انتشار ذلك الخلل أو ذاك في معظم القطاعات الإنتاجية بالفعل.

ويحدث هذا الخلل إما بسبب غياب تكنولوجيا التصنيع أو عدم القدرة على استيراد مدخلات الإنتاج، وجميعها معوقات هيكلية تحتاج إلى استثمارات طويلة المدى لتوافرها، وتغييرات مؤسسية يلزمها بُعد نظر صانع القرار ليضع سياسات صناعية تستهدف كفاية الإنتاج في تلك القطاعات.